مدارس الفقه.. والمزايدة على القرآن

على مستوى الفقه تـمّ تحويل الغزوالقبلى تحت مسمى الجهاد إلى فريضة دينية مؤبدة وتقسيم العالم إلى دارالإسلام ودارالحرب والربط بين حـِـل الدم وحالة الكفرأوعدم الدخول فى الإسلام.

بقلم: طلعت رضوان

انقسمتْ مدارس الفقه ما بين الاعتدال والتطرف، أوما بين الأخذ بظاهرالنص القرآنى والتفسيرالمُـتشـدّد. ومن أمثلة ذلك تفسير "القتال فى الشهرالحرام" المنصوص عليها فى سورة البقرة/217. هذا النص قرأه البعض فى ظاهره (تحريم القتال) باعتباره إثـمًـا كبيرًا. ثم تأتى المشكلة عندما يقول النص "قــُـل قتال فيه كبير" وكان التبرير فى نفس الآية "وصد عن سبيل الله وكفربه".

فى هذه الآية فإنّ بعض مدارس الفقه يتعاملون معها على أنها صالحة لكل زمان وكل مجتمع وفق قاعدة "عموم اللفظ وخصوص السبب" أى تجاهل أسباب النزول بل وتجاهل أنّ الآية تبدأ بالسؤال: يسألونك. خصوصاً أنّ تحريم القتال فى الشهرالحرام كان هوالعرف السائد فى المجتمع الذى نعته الإسلام بالجاهلى، لدرجة أنْ قال البعض "يجوزنسخ القرآن بالسنة" وقال الجوينى، وهومن متكلمى الشافعية، أنّ "نسخ القرآن بالسنة غيرممتنع" (الجوينى- البرهان فى أصول الفقه- ج2- ص1307- نقلاعن عبدالجواد ياسين- الدين والتدين- دارالتنويرللنشر- عام2012- ص110) وأضاف ياسين: لقد توقف الفقه أمام اللحظة المحلية والعابرة فى التاريخ، وهى لحظة حرب ليستخلص منها حكمًـا نصيـًـا فى غاية الخطورة ويجعل منه القاعدة الأساسية التى تحكم علاقة المسلمين (بالأغيار) حتى أنّ ابن عربى شرح المقصود بتعبير(المشركين) فقال "الذى عندى أنّ هذا عام فى كل أحد ممن له عهد دون من لاعهد له وفقــًـا لآية إلاّ الذين عاهدهم من المشركين (التوبة/4) فمن كان له عهد أجل أربعة أشهرويحل دمه. ومن لم يكن له عهد فهوعلى أصل الإحلال لدمه بالكفرالموجود به" (ابن عربى- أحكام القرآن- ج1- ص364).

 هكذا انضـمّ ابن عربى لفريق الأصوليين المُـتشددين فكتب فى تعليقه على آية "فاقتلوا المشركين"(التوبة/5) أنّ "هذا اللفظ وإنْ كان مختصًـا بكل كافربالله (عابد للوثن) فى العرف، ولكنه عام فى الحقيقة لكل من كفربالله...ويبقى الكلام فيمن كفرمن أهل الكتاب، فيـُـقتلون بوجود علة القتل وهى الإشراك فيهم"(مصدرسابق- ص370)، وكان تعليق ياسين أنّ ابن عربى تجاوزمشركى العرب إلى كل كافر أى إلى كل من لم يدخل فى الإسلام. ويسرى فى كل مكان بدليل قوله تعالى "حيث وجدتموهم"، فكان تعليق ياسين: وأخطرما يمكن قراءته عند ابن عربى فى هذا الصدد هوتعليقه على آية "واقعدوا لهم كل مرصد"، بقوله: "قال علماؤنا من مذهب المالكية: فى هذا دليل على جوازاغتيالهم من قبل الدعوة"، فكان تعليق ياسين: أنّ ابن عربى يوقفنا على نمط تفكيرنابع من ثقافة تدين خشنة ظلــّـتْ مُـحملة بأعراف الحروب العربية التى لابستْ النص (القرآنى) فى مراحله الأولى. كما أنّ ابن عربى كتب إنّ الله "غفوررحيم بخلقه فى إمهالهم ثم المغفرة لهم"، فكان تعليق ياسين: "فكيف يستقيم الإمهال مع الاغتيال"(الدين والتدين- ص116).

وتساءل ياسين: هل كان النص التشريعى يـُـجيب عن أسئلة مفروضة من الواقع المحلى، أم عن أسئلة مفترضة؟ وإلى أى مدى كان النص يستمد حلوله الموضوعية من النظام العرفى السائد فى المحيط العربى، والمتأثربتسريبات بابلية وتشريعات توراتية؟ لقد اهتم القرآن بأحكام الحرب لأنها لم تكن حدثــًـا استثنائيـًـا فى الاجتماع القبلى العربى، وكانت كذلك بعد الإسلام فى فترة تأسيس الدولة. وقد عكستْ صياغات النص المدنى هذا الحضورالمُـكثف بوجوب القتال مقارنة مع الصياغات المكية التى اتسمتْ بنبرتها الهادئة.

إن الدراسات القرآنية تنبهتْ إلى فروق النص المكى والمدنى، ولكن هذه الدراسات لم تتوقف أمام دلالة النص المدنى خاصة آيات القتال التى وضعتنا فى أجواء المجتمع القبلى العربى، للتأكيد على (ثقافة الغزو) وكانت- فى وقتها- حالات ظرفية ومُمعنة فى المحلية. وبهذا نكون أمام نموذج بارزفى الفقه وفى العقلية الدينية، بالتماهى والتشابه مع التراث التوراتى حيث نقرأ "حين تقترب من مدينة لكى تـُـحاربها استدعها للصلح، فإنْ أجابتك إلى الصلح فيكون كل الشعب لك للتسخيرويـُـستعبد لك. وإنْ لم تــُـسالمك... فحاصرها واضرب جميع ذكورها بحد السيف"(تثنية 20: 10- 13)، وكان تعقيب ياسين: وهذا ما سارعليه التوجه العنيف فى مسارالتدين الإسلامى وتاريخه، سواء على المستوى الخارجى تحت عنوان (الفتوحات/ الغزوات) أوالاقتتال الداخلى بين الفرق، وهوما انعكس على الذات الإسلامية المعاصرة.

وعلى مستوى الفقه تـمّ تحويل الغزوالقبلى تحت مسمى الجهاد إلى فريضة دينية مؤبدة وتقسيم العالم إلى (دارالإسلام) و(دارالحرب)، والربط بين حـِـل الدم وحالة الكفرأوعدم الدخول فى الإسلام، ويعنى ذلك وجوب مبادأة الناس بالقتال والاستمرارفى ذلك حتى يدخلوا جميعـًـا فى الإسلام أويدفعوا الجزية إذا كانوا من أهل الكتاب، وأنّ مدارس الفقه المُـتشددّة استندتْ على قول الرسول "بـُـعثتُ بالسيف وجعل رزقى تحت ظل رمحى وجعل الذلة والصغارعلى من خالف أمري"، وهذا هو تصورالمذاهب الفقهية التى انحازتْ للانتصارالسياسى وتمدد الدولة (الإسلامية)، وهذه المذاهب الفقهية استندتْ إلى نصوص القرآن التى تبيح القتال، مثل الآية 39 من سورة الحج وكذلك سيرة الرسول حيث أنه فى السنة الثانية للهجرة قاد بنفسه سبعين جنديـًـا لملاقاة قافلة قرشية فيما يـُـعرف بغزوة الأبواء ولكنه فشل فى اللحاق بها. وتكرّرذلك حين خرج فى مائتىْ مقاتل ليعترض قافلة أمية بن خلف فيما يـُـعرف بغزوة (بواط) وفشل فى اصطياد القافلة...وغزوات كثيرة إلى أنْ كانت سرية عبدالله بن جحش التى نزلتْ بشأنها آيات القتال فى شهررجب من السنة الثانية للهجرة. وبينما كل هذه الغزوات أخذتْ (طابع الهجوم) فإنّ الفقه أضفى عليها صفة غيرحقيقية عندما منحها صفة (غزوات دفاعية) حتى أنّ الصوفى الكبيرابن عربى انضم للمُـتشددين فكتب أنّ القتال "مكتوب على جميع الخلق" وكفــّـرالمعتزلة والقدرية. وفسرآية "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...إلخ" (التوبة/5) أنها "عامة فى كل موضع" (أحكام القرآن- ص371)