مراجعات ومكاشفات للحدث السوري

تراكمت المؤشرات على أن حلفاء نظام الأسد ما عادوا بقادرين على دعم بقائه أو أخذه إلى منطقة الحل السياسي.

لم يكن الحدث السوري بـ عناوينه ومشاهده المعقدة بعيداً عن التفاعلات الإقليمية والدولية التي أثرت على مضمون الملف السوري. وفي المقابل فإن النظام السابق كان سبباً رئيساً في تأخير الوصول إلى الحل السياسي. رغم المبادرات العربية والخليجية التي قُدمت، ورغم المسارات السياسية الواضحة التي هُندست رغبةً من القوى الإقليمية والدولية بإيجاد حل سياسي يُنهي الأزمة السورية، إلا أن النظام وإعتماده معادلة إصطفاف سياسي غير متوازنة، كان ذلك سبباً في الإبتعاد عن قرار السوريين الذي كان واضحاً في الذهاب فوراً إلى تطبيق القرار الأممي 2254، وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، خاصة أن الكثير من المعطيات السياسية ومثلها العسكرية، كانت واضحةً في أن مسار التطورات يشي بإقتراب لحظة السقوط، وما يتبع ذلك من حالة الفوضى واللاإستقرار والتي يبدو أنها بدأت بالظهور مع رحيل النظام وهروب الأسد، والتخلي عن السوريين ووضعهم أمام أمر واقع غير واضح المعالم حتى اللحظة.

سياسات النظام ووضع قرارته ضمن الخيارات الإيرانية والروسية ومصالحهما، جعل الملف السوري في مسار تراجعي في أولويات المجتمع الدولي، وكان واضحاً أن كل المبادرات السياسية كأستانا وغيرها من المسارات، لم تكن تعتمد منهج البحث الجدي عن الحلول، بقدر ما حاول ضامني أستانا، لاسيما روسيا وإيران، تثبيت الوقائع الميدانية وإمكانية تغيير الواقع الدولي بما يخدم النظام وحلفاؤه، لكن حلفاء النظام كانوا غارقين في أزمات لا حدود لها. كل ذلك كان سبباً في تمييع الحل السياسي وتسطيح الحلول القادرة على إنقاذ السوريين، فضلاً عن أن حُلم السوريين بالإنتقال إلى سوريا ديمقراطية تعددية، بات ضرباً من ضروب الخيال والجنون، لاسيما أن الكثيرين تلمسوا رغبات بعض الدول في إعادة تعويم النظام والعمل على إعادة تأهيله إقليمياً ودولياً.

لم تكن التطورات الميدانية التي حدثت وليدة اللحظة، ولم تكن ضمن سياق فرض وقائع ميدانية تكون عامل ضغط على النظام لإجباره على الذهاب الى الحل السياسي. ويبدو واضحاً أن القرار أُتخذ بإسقاط النظام كاملاً. وهنا لا يصح الحديث في ظل المعطيات والوقائع عن مؤامرة حيكت ضد النظام، أو أن هناك مؤشرات تدل على أن حلفاء النظام لم يعودوا قادرين على إنقاذه، بل ثمة لحظة سياسية فارقة كانت سبباً في الوصول إلى إسقاط النظام ورحيل رموزه. هذه اللحظات بدأت منذ الحرب الإسرائيلية في فلسطين ولبنان، حيث أن ترتيبات المشهد الإقليمي الجديد كان تسير في إتجاه إسقاط النظام السوري وإسقاط حلفائه أيضاً، فضلاً عن أن النظام لم يتمكن من إلتقاط اللحظة الإقليمية ومتغيراتها، ولم يستثمر رغبات أردوغان في إعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة، حتى تم الأمر عسكرياً.

الحدث السوري كان صادماً ومفاجئاً بمعطياته التي حدثت، من ذلك سرعة إنهيار النظام عسكرياً، حتى باتت قوات النظام لا تملك زمام أمرها بحضور الميليشيات الإيرانية والقوات الروسية، التي ضمنت حماية النظام وأعاقت انهياره المُحتم لسنوات. والأمر اللافت ظهر أيضاً في مستوى التنظيم والتدريب الذي أظهرته الفصائل المسلحة، والتي تمكنت من بسط سيطرتها على محافظات كاملة خلال أيام. لكن ضمن ذلك كان واضحاً أن هناك إرادة دولية تقتضي خروج الميليشيات الإيرانية من المشهد السوري بالكليّة. كما أن الدور الروسي وتراجع زخمه في دعم رأس النظام السوري لأسباب موضوعية باتت معلومة للجميع. كل ذلك وضع الحدث السوري أمام مُتغير واقعي لم يعد قادراً على تخطي عناوينه.

لحظة الحقيقة التي وجدها السوريين واقعاً عبر رحيل النظام الذي ظل جاثماً على صدور السوريين لعقود طويلة. لكن هذه اللحظة ورغم فرح السوريين بها، لاسيما أن دمشق باتت في عهدتهم، لكن لا يجب أن لا يغفل السوريين عن قادمات الأيام التي ستكون حُبلى بالمفاجآت والملفات المعقدة والتي ستكون سبباً في إرهاق السوريين ربما لسنوات، ريثما يتم ترتيب المشهد السوري من جديد، وتمكن السوريين من القبض على قرارهم السياسي وتحييده عن أي أجندات أو توظيفات إقليمية ودولية. ورغم فرح السوريين إلا أن الترقب والتخوف مما يمكن أن تؤول إليه الأمور تالياً في الحدث السوري، هو أمر مشروع وله كثير من المسوغات، وهذا يفرض في سياق أخر أن يتم عقلنة المشهد والتكيف مع جملة واسعة من السيناريوهات القادمة.

كان واضحا أن مسار الحدث السوري ومنذ بداية العام 2011، يعتمد على وضع النظام السوري أمام حقيقة أن السوريين ضاقوا ذرعاً بسياساته، وإن الحاجة إلى التغيير باتت ضرورية ولابد من العمل عليها في أي مسار يوصل إليها. لكن النظام الذي ظل يعمل على الاستئثار بالقرار السياسي، والإستمرار بتجاهل مطالب ورغبات السوريين، كل ذلك جعل من النظام فاقداً للشرعية الشعبية. ولعل تصدع البيئة الحاضنة للنظام والتي فقدت الإيمان به ولم تعد في موقع الدفاع عنه، فإن ذلك أفقد النظام توازنه وإستقراره. نتيجة لذلك فإن كل هذا يُترجم هشاشة قوات النظام وعدم قدرتهم على الدفاع عن مواقعه، وانسحاباتهم العشوائية بعد أن وجدوا أنفسهم فُرادى في الميدان، أمام خصم يتمتع بمعنويات عالية وإيمان بالتحرر وتنظيم وبراعة في الأداء العسكري والمدني.

ما على السوريين إدراكه في هذا التوقيت أنهم أمام مرحلة مصيرية. هي مرحلة يجب أن لا تكون خياراتها رهناً ببعض الدول الإقليمية والدولية التي تركت يد النظام تعيث فساداً وخراباً وفتكاً بدماء السوريين، وأن لا يتوقعوا بأن تلك القوى ستقف مع السوريين موقفاً متعاطفاً، بقدر ما ستبحث عن مسار جديد لمصالحها في سوريا الجديدة. وهذا ما يفرض على السوريين أن يكونوا شديدي الحرص في تحديد مستقبلهم السياسي بعيداً عن أهواء القوى الإقليمية والدولية، وأن يتم توحيد الرؤى السياسية بما يخدم مستقبل سوريا والسوريين، وأن يتم العمل على تحقيق انتقال السوريين من نظام قمعي الى نظام ديمقراطي يجمع السوريين كافة.

ورغم أهمية الحدث السوري وعناوينه الجديدة، إلا أنه يجب أن لا يغيب عن أذهان السوريين، بأن غالبية الهيئات السياسية للمعارضة السورية هي هيئات مُقسمة ولا تملك قيادة واحدة تُعزز الحدث السوري بمفاهيم الإستقرار السياسي. وهذه الإشكالية قد تكون عامل جذب لبعض القوى الإقليمية والدولية بإبقاء تلك المعارضات على ما هي عليه. وهذا قد يكون سبباً في تأخير حصول الإستقرار السياسي في سوريا، وتأخيراً في الوصول إلى جُملة من الصيغ الإجتماعية والتي لابد من العمل على تكريسها للنهوض مُجدداً بالواقع السوري. لكن ثمة إيمان كبير يرتكز على مقدرة السوريين في صناعة مستقبل أفضل عبر توحيد مساراتهم السياسية في مسار واحد يُفضي إلى بناء سوريا ديمقراطية تعددية.