مزيد من خلط الاوراق في العراق

من الباكر الجزم بانّ ايران هي الخاسر الاوّل في البصرة.

ليس ما تشهده مدينة البصرة حدثا عابرا. ما يحدث في العراق هزّ وما زال يهزّ المنطقة كلّها. الحدث العراقي ليس وليد البارحة، بل هو نتيجة سقوط التوازن الإقليمي ابتداء من العام 2003، أي منذ ما يزيد على خمسة عشر عاما. هل احداث البصرة بداية استعادة هذا التوازن ام انها خطوة على طريق مزيد من خلط الاوراق في الداخل العراقي، خصوصا بعد دعوة مقتدى الصدر رئيس الوزراء حيدر العبادي الى تقديم استقالته؟

لم تكن الحدود بين العراق وايران، التي سقطت نتيجة الحرب الاميركية التي انتهت بانتصار إيراني لم يتحقّق الّا بواسطة الجيش الاميركي، مجرّد حدود بين بلدين. كان الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران اوّل من تحدّث منذ ثمانينات القرن الماضي عن انّ الحدود العراقية – الايرانية هي "حدود بين حضارتين" وانّ وجودها منذ ما يزيد على خمسمئة عام مرتبط بالتوازن الإقليمي بين العرب والفرس.

كان كلام ميتران في مطلع ثمانينات القرن الماضي لدى اندلاع الحرب العراقية – الايرانية التي استمرّت ثماني سنوات. لعبت فرنسا دورا في غاية الاهمّية في منع حصول اختراق إيراني للعراق في تلك المرحلة. "اعارت" فرنسا العراق ست طائرات "سوبر ايتندار" لم تكن لدى البحرية الفرنسية غيرها وزودته صواريخ "اكزوسيت" بغية منع حصول هذا الاختراق للحدود العراقية. وهذا ما حصل بالفعل. كانت البصرة في كلّ وقت هدفا إيرانيا من منطلق انّها مدينة ذات أكثرية شيعية... علما انّه لا يمكن الاستهانة بما كان عليه الوجود السنّي فيها في الماضي ان على الصعيد الاجتماعي او على الصعيد الاقتصادي.

استطاعت ايران ان تحقق بواسطة الجيش الاميركي في العام 2003 ما لم تستطع تحقيقه بين 1980 و1988. عملت طوال خمسة عشر عاما على تغيير طبيعة المدينة كي تصبح متشحة بالسواد. شمل ذلك اغراقها بالمخدرات والقادمين من ايران وتحويلها الى ما يشبه ضاحية فقيرة وبائسة لمدينة إيرانية. اكثر من ذلك، جرى طرد الاقليّة المسيحية من المدينة في ظلّ سيطرة للميليشيات المذهبية التابعة لايران عليها وعلى كلّ القطاعات المنتجة فيها. بدأ طرد المسيحيين باعتداءات تعرضت لها النساء واستمرت عبر تفجير محلات بيع الخمور في المدينة. كانت كل الحجج صالحة من اجل تنفيذ عملية تهجير للمسيحيين والاستيلاء على ممتلكاتهم، علما انّهم لم يحتكروا بيع الكحول او المتاجرة بها في البصرة، بل كان مصدر معظم هذه الخمور الميليشيات المذهبية المعروفة التي تحكّمت بالمدينة مع سقوط النظام في 2003.

ليس ما حدث في الايام القليلة الماضية سوى دليل على ان روح المقاومة لدى اهل البصرة لم تمت بعد. بعيدا عن دعوة "سائرون" العبادي الى الاستقالة، يبقى ان احراق القنصلية الايرانية في المدينة ومقرات الأحزاب المذهبية الموالية لإيران بمثابة رسالة من اهل البصرة الى كلّ من يعنيه الامر.

فحوى الرسالة ان الكيل طفح وان الناس لم تعد قادرة على تحمّل ممارسات الحكومة والقيمين على الخدمات ولا تصرفات الميليشيات المذهبية التي لعبت دورا في تغطية كلّ أنواع الفساد التي كانت ايران المستفيد الاوّل، من جانب منه، طوال سنوات، خصوصا بعد تولي نوري المالكي موقع رئيس الوزراء.

في النهاية ان الفشل في البصرة، والفشل لا يقتصر على هذه المدينة العراقية الواقعة في منطقة غنيّة بالنفط، هو فشل للمشروع الايراني في العراق.

بغض النظر عمّا اذا كان صدّام حسين في حال الدفاع عن النفس في العام 1980 او انّ دخوله حربا شاملة مع ايران ردّا على استفزازاتها، كان خطأ جسيما، يظلّ ان ما عجزت عنه ايران في 1980 تحقق لها في 2003. لا شكّ ان صدّام كان على خطأ في افتعال حرب دفعه اليها النظام الايراني الجديد الذي قام على انقاض نظام الشاه والذي استهدف العراق اوّلا. قد يكون هذا الاستهداف عائدا الى حقد آية الله الخميني على العراق من جهة واعتقاده ان شيعة العراق صاروا جزءا من رعيته من جهة أخرى. وهذا خطأ كبير في حجم خطأ ردّ صدّام على الاعتداءات الايرانية باللجوء الى الحرب.

بعد 2003، حاولت ايران ان تحكم العراق بكلّ الوسائل الممكنة مباشرة او بوسائل غير مباشرة. تصرّفت وكأن العراق ارض سائبة. حققت الكثير في مجالات مختلفة، لكنّ مشروعها الهادف الى تحويل العراق مجرّد جرم يدور في فلكها اقترب من نهايته.

ما لا بدّ من الاعتراف به انّ ايران استفادت الى ابعد حدود من مشاركتها في الحملة العسكرية الاميركية. كانت في الواقع جزءا من هذه الحملة. وضعت كلّ إمكاناتها في تصرّف الاميركيين في مرحلة ما قبل الحرب. كان همّها منكبّا على الانتقام من العراق ووجدت في قرار جورج بوش الابن فرصة لا تعوّض من اجل تحقيق مبتغاها وشفي غليلها من العراق والعراقيين. لذلك وجدناها تعدم بعد دخول ميليشياتها الى العراق معظم كبار الضباط والطيّارين العراقيين الذين شاركوا في حرب 1980- 1988. ما عجزت عن تحقيقه في تلك الحرب حققه لها للأسف الشديد صدّام حسين عندما ارتكب حماقة احتلال الكويت في العام 1990 ثمّ جورج بوش الابن الذي لم يدرك عندما "تلقى نصيحة آلهية" بغزو العراق انّ الموضوع يحتاج الى اعداد جيد لمرحلة ما بعد احتلال هذا البلد كي يكون بالفعل نموذجا تحتذي به دول المنطقة.

من الباكر الجزم بانّ ايران هي الخاسر الاوّل في البصرة. فعندما يدعو مقتدى الصدر حيدر العبادي الى الاستقالة، وعندما تؤدي ميليشيات تنتمي الى "الحشد الشعبي" عراضات عسكرية في شوارع البصرة، بعد يوم فقط من اطلاق البصراويين صيحات "ايران برّة... برّة" يتبيّن ان لديها أوراقا ما زالت قادرة على لعبها. ما لا يمكن تجاهله انّها عرفت تماما كيف تناور في السنوات القليلة الماضية، خصوصا عندما استخدمت إدارة باراك اوباما افضل استخدام. ابتزت الإدارة طويلا في العراق وسوريا ولبنان بفضل ملفّها النووي الذي ليس اكثر من لعبة مكشوفة لتغطية مشروع توسّعي يعتمد اوّلا وأخيرا على اثارة الغرائز المذهبية في كلّ انحاء المنطقة.

مرّة أخرى، لا مفرّ من سؤال: هل يمكن إعادة تركيب العراق؟ الجواب ان ذلك سيكون صعبا، لكنّ ما لا بدّ من اخذه في الاعتبار مستقبلا تطور الوضع الداخلي الايراني من جهة والموقف الاميركي من جهة أخرى. ما يمكن ان يدعو الى بعض التفاؤل، وان في الحدود الدنيا، ان الفشل الايراني فشل في داخل ايران اوّلا، وهو فشل اقتصادي أساسا. امّا بالنسبة الى الإدارة الاميركية، بغض النظر عن المشاكل الداخلية لترامب، يبدو ان هناك نواة تعمل جدّيا على هزيمة المشروع الايراني في المنطقة من منطلق الوعي الكامل لخطورة هذا المشروع وابعاده. هناك ادراك اميركي انّ لا هدف لهذا المشروع سوى نشر التطرّف والبؤس والدمار وتفتيت المجتمعات. هل من دليل على ذلك افضل مما حدث في العراق طوال خمسة عشر عاما من ممارسة النفوذ في هذا البلد الذي كان الى ما قبل فترة قصيرة حاجزا يقف في وجه التمدد الايراني في اتجاه الشرق الاوسط والخليج.