"مسارات متشعبة" .. بعيدا عن السيرة الذاتية للكاتبة

رانيا مسعود تتجول بنا في عدة أمكنة طبيعية جدًا تمر بحياتنا اليومية، وهي البيت والشارع والمدرسة والجامعة ومواقع العمل.
العمل يطرح فكرة التحيز المجتمعي للذكوري
إحساس البطلة بكينونتها

بقلم: إيمان حجازي

عند تناول هذا العمل للكاتبة رانيا مسعود نجده يمتاز بقدر كبير من الرهافة الحسية والتي تتضافر مع جزالة ورصانة اللغة ونجد فيه معبرا عن ثقافة الكاتبة المتنوعة وخاصة الدينية .
قد يقع في نفس القارئ منذ الصفحات الأولى للعمل أن الرواية سيرة ذاتية للكاتبة، ولكني عن نفسي أود الخروج من هذا الفخ، وأريد توسيع الدائرة قدر المستطاع حتى تشمل رؤيتنا لحقيقة الرواية، والوقوف على عمق ما تود الكاتبة توصيله لنا، ومن ثَمَّ يسهل التعامل مع الطرح من جهة ومحاولة تفنيده والاسترشاد به لحل مشكلات متأصلة في مجتمعنا من جهة أخرى، على اعتبار أن الكاتب والأديب هو الفرشاة التي تلون العالم، وهو الحرف الذى يصوغ طرح مشاكله والحلول .
عند الكلام عمَّا يسمى بوحدة الموضوع ووحدة الزمن بالنسبة لهذا العمل، فإننا نرى فيما يخص المكان أن الكاتبة تتجول بنا في عدة أمكنة طبيعية جدًا تمر بحياتنا اليومية، وهي البيت والشارع والمدرسة والجامعة ومواقع العمل أيضًا. أما الزمان  فهو لا يتعدى حدود العقود الثلاثة وهي عمر الكاتبة والتي ربما تزداد قليلا، حتى عند استشهاد الكاتبة بأقوال وأفعال الجد والجدة فهي استشهادات تكون محصورة بمدى حضور الكاتبة .
وبالنظر إلى هذا العمل نجد أن معظم شخوصه سيدات، سواء كن في العائلة أو الجيران أو العمل، وفي الواقع لا يخلو العمل من العنصر الذكوري فهو الحاضر على الرغم من الغياب، فمعظم مشاكل الطرح في العمل يصب في بوتقة الرجل أو ينبع منها .
أما فيما يخص اسم الرواية وهي "مسارات متشعبة" فهي تعبر عن رؤى شخصية فردية، إنسان ما تتجه به إلى العديد من الطرق والتي قد تساعده أو تعيق خطواته.
وقد يرى القارئ أنها مسارات مختلفة للعديد من البشر ربما تتضافر أحيانًا في نقطة ما فتضع مصائر واحدة لهؤلاء، أو تتباعد وتختلف جدًا فتجعل كل منهم في طريق .
ونرى الكاتبة نفسها عندما افتتحت عملها كتبت: "المسارات الواحدة تفقد الحياة لذتها."
وكأنها تردد قول القائل لذة العيش في التنقل أو التغير، أو كما قالت في الفصل رقم 35 بأنها عندما اختارت اسم مسارات متشعبة للرواية لم يكن دليلا على معاناتها في الحياة بقدر ما أشار إلى خطوات ودروب أثرت وغيرت في حياتها .
وقد يكون أيضًا هذا ما عانته الكاتبة حين قالت إن من يدخلون حياتها ليؤثروا فيها هم ومضات، بمعنى الومضة التي تضيء لزمن قليل جدا وتنطفئ تاركة أثرها الإيجابي أو السلبي في النفس، وربما أتفق أو أختلف مع الكاتبة في تعريف الأثر الإيجابي، فعن نفسي كل فعل أو قول من الغير يؤثر في حياتي إيجابيًّا حتى وإن كان جارحًا، فكما يقولون كل علاقة تنشئ إما حبًّا أو جرحًا، أو إما حبا وحبيبا وحياة طيبة سعيدة أو إما جرحا يخلف درسا قويا ربما يحصن بعض الشيء من تكرار الوقوع في مثل هذا الشرك مستقبلا.
تقع أحداث هذا العمل في 35 فصلا، وقد يوافق الرقم عمر الكاتبة وربما لا، هم 35 فصلا تصف فيهم الكاتبة مدى معاناة البطلة الفتاة من العيش والتعامل مع مجتمع ذكوري بالسليقة، حتى أن نساءه ينحزن لذكوره .
أما لو تحدثنا عن معاناة بطلة الرواية، وسوف يكون ذلك إجماليا، فقد يخلف العمل لمن يقرأه صورة عامة تتيح له التحدث عن تفصيلاته وكأننا ننظر إلى لوحة تعبر ألوانها وشخوصها عن مكنون صدر من وضعها طى هذا الإطار.
فالعمل يطرح أولا فكرة التحيز المجتمعي للذكوري، في كل ما يعنى حياتهم من تربيتهم وإطلاق الحبل لهم على الغارب دخولا وخروجا ومصادقة بوازع أنهم رجال، لا يخشى عليهم، على عكس البنت أو الفتاة التي يخشي عليها من كل شيء وأى شيء، والتي يتعاملون معها على أنها "قاصر" على إطلاق التعامل، فيحصرونها في قفص العادات والتقاليد والأعراف ولا يطلقونها منها أبدا، فهي أسيرة هذه الأصفاد سواء كانت فتاة صغيرة أم زوجة وحتى أم، فما بالكم إن وُصِمَتْ بلقب عانس؟!
وقبل أن نسترسل في صفحات العمل دعونا نعرج إلى تعريف معنى العنوسة، من وجهة نظري البحتة فإن رقعة العنوسة في مجتمعنا قد اتسعت جدا بشكل لم يعد يخفى على أحد، ولم تعد الفتاة التي فاتها قطار الزواج وحدها هي العانس، ولكن السيدة التي تزوجت وطلقت بعد فترة لسبب ما ينطبق عليها لقب العانس، كما أن السيدة التي مات عنها زوجها وأصبحت أرملة هى أيضا عانس، غير أن من تزوجت رجلا بعمر أبيها تعتبر عانسا، وأن من اقترنت بشاب موفور الصحة والعافية ولكنه ملحق بأكثر من وظيفة لتوفير احتياجات المعيشة فهي بكل تأكيد عانس، ومن تعمل هي وزوجها ولا يتقابلان إلا من خلال رسائل تلغرافية بواسطة sticky notes على الثلاجة صباح مساء فهي لا محالة عانس وبالثلث، ومن هذا المنطلق نستطيع القول إن العنوسة لم تعد قاصرة على نون النسوة فقط بل انسحبت إلى واو الجماعة أو تاء الفاعل، أى أن الرجل أصبح له نصيب منها مساوٍ تمامًا للمرأة.
وبهذا يبقى السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا تعير المرأة وحدها بالعنوسة؟
وإذا رجعنا إلى مفهوم ومعاملة الأهل للفتاة بهذا الإجحاف، وإذا فرضنا جدلا أنه خليق بالأب لكونه رجلًا، فما هي حجة الأم في معاملة ابنتها بهذا الفتور والموافقة على ظلمها وإهدار حقها كند للابن من جهة، ومن جهة أخرى كانت فتاة أو ابنة لأبوين يوما ما؟! فلماذا مثلا يزداد حنوها على الابن؟! المفروض أنه جُبِلَ على الجلد والقوة بينما تبخل بمشاعرها مع ابنتها التي أمر الرسول بالرفق بها .
وأيضا الرواية تفرض أسئلة من نوعية لماذا تصر جميع الأمهات على تزويج فتياتهن حتى حال كونهن غير سعيدات بتجربة الزواج، أو ربما يكن شاهدات على فشل زيجات الأخوات الكبريات فلا يتعظن ولا يحتمين بالمثل القائل "قعاد الخزانة ولا زواج الندامة" الأكثر من ذلك والذي يضعنا في حيرة هو موقف الفتيات أنفسهن والذي مفاده السرعة للارتباط والتغير السلوكي الذي يصاحب الفتيات بعد الارتباط مقارنة بحالاتهن قبله، وكأن مكنونهن الفكري يربط وبشدة بين كرامتهن ووجود الرجل مهيمنًا على حياتهن .
أما فيما يخص أماكن العمل، فهناك أماكن تقنن أن دولاب العمل لا يستقيم دون إدارة رجل، وهذا يشي بما يفعله بعض رجالات الإدارة من تحرش بالموظفات سواء بالقول أو الفعل حتى تأخذ حقها في الترقية أو العلاوة أو ما إليه.
وقد وصل الظلم للمرأة حده في مجال العلم والسلوك التعليمي والجامعي، فبعض المدرسين يبخسونها حقها فقط لمجرد أنها امرأة، ويعاملونها كسبية في سبيل منحها شهادة أو درجة علمية.
وقد تناولت الرواية رفض المجتمع النسائي بشكل خاص - والذكوري على العموم - الاتجاه الرياضي للبطلة متمثلا في ركوب الدراجة، فقد فسروه بشكل مشين جدا وهو محاولة تعويض الفتاة لما ينقصها من لقاءات حسية حميمية لعدم زواجها .والغريب جدا، بالطبع، أن يصطلح المجتمع كله أو أغلبيته على هذا الفهم .
ورأى المجتمع المتدين من الجنسين أن الحل لا يخرج عن فكر التعددية، والسماح بها لفك عقدة العانسات. وهو فكر ينم عن التخلف البحت وقصر اهتمام العنصر الإنساني على الجنس فقط، رغم أن المولى جل وعلا من فوق سبع سماوات عندما شرع الزواج قال إنه سكن ومودة ورحمة.
وحتى وقت أن أباح التعدد في الزيجات كانت ﻷسباب محددة، ليس من بينها الإذلال ولا الإذعان .
والزواج في واقعه إن لم يحقق الثراء الوجداني والراحة النفسية للزوجين فهو مرحلة عذاب وعلاقة مكتوب عليها الفشل دون شك. 
وقد ناقشت السينما المصرية والدراما التليفزيونية على مدار ما يزيد على مائة عام مشاكل مشابهة مثل زواج المكره في الزوجة الثانية، زواج الربيبة من زوج الأم (استيلاء) في "مازال النيل يجري"، وزواج الشيخ من الشابة في "الطريق"، و"نحن لا نزرع الشوك" و"أين عمرى"
والكثير والكثير من الأعمال التي تنظر للمرأة باحتقار شديد ولا تعطيها الحق في العيش ولا الاختيار. 
ولكن أجمل ما نتعرض له في هذه الرواية هو إحساس البطلة بكينونتها ومعرفتها لما تريد وتصميمها على تحقيقه مهما كلفها الأمر من جهد. أيضا هي فتاة مثابرة رغم ما تعانيه من إحساسها بالوحدة والاضطهاد وانعدام السند وقلة العزوة ليس عن نقص حقيقي وإنما عن بخل الأهل وجهلهم باحتياجاتها الطبيعية .
مشكلة البطلة هنا ليست فردية وإنما هي مشكلة مجتمع ورث عاداته وتقاليده كابرا عن كابر، ونرى أن المجتمع لن يتغير بين عشية وضحاها ولن يتغير في المدى القريب، بل ولن يرى التغيير أبدا دون وجود مثل تلك الفتاة وإيمان الجميع بكيانهن وإثبات ذواتهن وأخذ أماكنهن في العمل والعلم على ألا يقدمن على فكرة الزواج إلا وهن مقتنعات تماما بأن هذا ما يردنه وما يحقق لهن السعادة والاستقرار .
إذا ما نجحت نون النسوة في نشر والتصميم على هذه الإرادة، سوف يتغير المجتمع وإلا سنظل نرزخ تحت عباءة الجهل والعنوسة كلنا نساء ورجالا.
تحية للكاتبة تثمينا لجهدها وعلى ما أمتعتنا به من رؤية مثقفة واعية جريئة ودعوات بمزيد من الألق لها ولنون النسوة كافة اللائي يردن الخروج من عباءة الزواج الظالم وتبديله بزواج حقيقي وهو الذي شرعه الله سبحانه وتعالى، ونشر العدل بين الأولاد في المعاملة والحنان مثلما وصى نبي الرحمة حتى ينشأ لدينا مجتمع صالح نفخر به ونبني مجده ونحافظ على تراثه بكل ما أوتينا من قوة وعزم.