مسعودة بوبكر: الكتابة أشبه بحالة المخاض العسيرة وحالة الوحام

الرواية باتت تستجيب للمبدعين أكثرَ من أي شكل آخر بجغرافيتها الممتدة في مجرة الكتابة، وبطابعها الفسيح.
في جل أعمالها ثمة انشغال واهتمام واضح بالأوضاع السياسية والاجتماعية سواء كانت قبل الثورة أو بعدها
حتّى روايات الخيال العلمي تنبع من الواقع

حوار أجرته: حنان عقيل

تبدو الثورة التونسية ومآلاتها من الشواغل الرئيسية للقاصة والكاتبة مسعودة بوبكر في أعمالها الأخيرة سواء كانت قصة أو رواية أو يوميات، في "نزر مما"، و"الرحيل إلى تسنيم"، و"أظل أحكي"، والكتاب المنتظر صدوره أيضا "ياسمين أحمر". 
ترى الكاتبة التونسية أن الكاتب نتاج عصره لا يمكن أن نفصله عن ملابساته ومستجدّاته. يعي بشكل خاص نبض ما يحيط به، تراه حتى وهو يطرح هموم الذّات لا يتخلّص من انعكاسات ما حوله من همّ المجموعة ومؤثراتها فنجده يخلص إلى قضية الإنسان عموما بماضيها وحاضرها. وانطلاقا من هذا المفهوم كانت كلّ كتاباتها تطرح قضايا الإنسان التي تعايشها وتثير لديها أسئلة ممّا يفسّر انعكاس الأحداث التي شهدتها تونس قبل وبعد 14 يناير/كانون الثاني 2011 كانتفاضة الخبز مثلا في 1984، مستجدات تاريخية تمخر مؤثّراتها الذّات دون هوادة وتملك على المرء كلّ اهتمامه وتفاعله فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعيش خارج نبضها أو أن يلجم نفسه عن التعبير بكلّ الأشكال المارقة عن الصمت والخنوع.
الكاتب ابن بيئته ونتاج عصره، تظل عملية الفصل بين الإبداع وما يفرزه المجتمع من مستحدثات وأفكار عسيرة، خصوصًا حينما يُفجّر هذا الواقع أسئلته جراء أحداث كبرى وتغيرات مفصلية. من هذا المُنطلق تكتب الروائية التونسية مسعودة بوبكر أعمالها الروائية والقصصية المُنشغلة بالهم الجماعي وما وراءه من قضايا سياسية ومجتمعية.
هم إنساني
تُبيّن بوبكر أن الكاتب يملك القلم، سلاحه الذي يؤمن به قدر يقينه أنّ الكتابة قوّة ناعمة لا تخمد ولا تقبع في الظلّ حتّى تستوي الأحوال لتتحرّك. ثمّة نوع من الإبداع أفرزته الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة في الرّسم والنص الغنائي والمسرحي والخطاب الأدبي.
في جل أعمالها ثمة انشغال واهتمام واضح بالأوضاع السياسية والاجتماعية سواء كانت قبل الثورة أو بعدها. تتساءل بوبكر "هل ثمّة مطريّة يمكن للمرء أن يحتمي بها من هواطل السياسة كما عبّر أحدهم؟ فكون اللغة الفرنسية في تونس والمغرب العربي هي اللغة الثانية فذلك إفراز من إفرازات سياسة الاستعمار. الخبز اليومي الذي يحضر على موائدنا بمكوناته التي يحكمها صندوق التعويض حسب منظور اقتصادي معيّن هو إفراز سياسي، المناهج التعليمية والوضع الاجتماعي عموما إفراز من إفرازات السياسة".
تسترجع بوبكر فترة طفولتها الغنيّة بالأسئلة والوعي المبكّر الذي شكّله الوضع من حولها بقولها "في طفولتي شهدت كل القرية الصغيرة منشدّة إلى العالم عبر المذياع وتقصّي أخبار الحرب في الجزائر وجبهة التحرير الوطني في مواجهة الاستعمار الفرنسي، وأخبار الحرب في فلسطين ثمّ تداعيات نكسة 67، وصدى ما يحدث في العالم. لا أحد من عائلاتنا شارك في الحياة السياسية للبلاد بالنشاط أو المعارضة، فالحزب الواحد هو المهيمن والقضية الأساسية بعد استقلال البلاد هي خبز العيال وتعليم العيال فضلا عن كون الأميّة هي الطّاغية وتبعات السياسة لا ترحم كما هو الحال في كل العالم العربي".

تتابع "في هذا المناخ تربّيت ونشأت ونما لديّ الوعي بالأشياء وتفجّرت الأسئلة الكبرى خصوصا بعد اطلاع نسبيّ على الأدب العالمي بما فيه الأدب الروسي، وما تطرحه النصوص من معاناة الإنسان في المجتمع الريفي والمجتمع الهجين في المدن، وفي ظل أزمات اقتصادية وسياسية. وجدتني في قلب قضايا الإنسان وأنا أرتحل عبر الكتب الأدبية، في قلب صراعات محيّرة تطوقني. وبالتالي كنت نقطة في سطر تسعى للتفرد والاستقلال وهذا ما جعلني أتحسس فهم الذات الواحدة عبر الهمّ المجموعاتي المشترك.
تقول الكاتبة التونسية "بالنسبة إليّ الكتابة قضيّة همّها بالمقام الأوّل المعاناة الإنسانية. ولكن هذا لا يعني أنّ الكتابة عموما هي هذا، وأن الرواية لا بدّ أن تكون في الهمّ المشترك وأن القصة لا تتوهّج إلا بانكبابها على (ملح الأرض). ليقين واحد هو أن الفن حرّ ومطلق، والكتابة بالتالي اختيار ذاتيّ محض. والفعل الإبداعي ينهل بشكل أساسي من ترسّبات الوعي الباطني حيث تكمن ألوان البيئة التي تربّى في حضنها الكاتب والإطار العام بكلّ مفاهيمه فضلا عن مواقفه من كلّ ذلك".
تستطرد "أحيانا تغزو الأسئلة الحارقة الدماغ وتنغل فيه مثل ديدان متوحشة شرسة، فإمّا أن تسعى للتخلّص منها بإخراجها وتعريتها، وإمّا ستدفع بك إلى التخلّص من وعيك ونبضك وحياتك في لحظة فارقة مستغلقة عن الفهم". في حركة المدّ والجزر هذه كتبت نصوص كتابها الجديد "ياسمين أحمر" أسئلة أخرى انفجرت في دواخلها، وطرحتها  بأسلوب الكتاب الأوّل نفسه، نصوصا تتضمن شهادة عن عصر وعن مستجدات وتحركات مصيريّة.
مجرة الكتابة
كتبت بوبكر القصة القصيرة قبل أن تلج إلى عالم الرواية وهنا تقول "أنا مولعة بالحكي وبالسرد. بدأت بالقصّة لكثرة تأثّري بما قرأت من قصص قصيرة للرواد فضلا عن الأدب الروسي المترجم فكان حصاد ذلك مجموعة (طعم الأناناس)، ثم مع تقدّم الوعي والتجربة احتاجت بعض الأفكار لديّ والأسئلة إلى فضاء أرحب وذلك تأثرا بانفتاحي على الرواية التونسية فالعربية والفرنسية ثمّ المترجمة. واستهوتني التجربة وكتبت أوّل رواية لي وهي (ليلة الغياب) نشرت سنة 1996”.
فالرواية باتت تستجيب لبوبكر أكثرَ منْ أيِّ شكلٍ آخر بجغرافيتِها الممتدةِ في مجرَّةِ الكتابةِ، بطابعها الفسيحِ الذي يسمحُ بعدوِ المسافاتِ البعيدةِ بين ضفافِ الذاتِ ومداراتِ المجموعةِ، فهي ذات سلطان واقتدار بإمبرياليتها كما يقول بيير شارتييه.
وعن تأثير الشعر على نصها السردي، تبين بوبكر "تأثرت بالشعر القديم وأوزان الخليل ونظمت بعض القصائد في الهجاء وأنا في الثانوية مع بعض رفيقاتي بالمعهد ثم أقلعت عن ذلك وتركت الشّعر تهيّبا من أن أمارسه كلعبة، انغمست في قراءة السرد والكتابة السردية غير أني لم أهجر الشعر، لدي نصوص شعرية وشغوفة بقراءة الشعر كلما أعياني التفكّر والجدل.
أمّا  عن حضور اللغة الشعرية في  كتاباتي فهذه خصيصة في أسلوبي لأنني لا أستسيغ اللغة المحنّطة ثمّ إن الشعري يدخل شئنا أم  أبينا في متن الرواية الحديثة التي تتوسّل بتقنيات الأجناس الأدبية والفنية عموما، وطبيعي أن يستأنس السردي بالشعري".
تؤمن الكاتبة التونسية بأن الواقع هو المعين الأصلي للعمل الفنّي، والطّرح هو المتغيّر والمختلف، والتخيلي هو الورشة الساحرة التي يُعاد فيها سبك هذا الواقع، فحتّى روايات الخيال العلمي تنبع من الواقع لخلق الضّديد، موضحة "في كتاباتي انطلاق ترتّبه أسئلة الحال واستفزازات الأحوال من الواقع، أذكر مثلا رواية (طرشقانة) حين شحّ الواقع ببلسم لجراح بطل الرواية المنبوذ من مجتمعه وعائلته، لجأت إلى الخدعة الفنية عبر الرواية داخل الرواية، كأنما لا تملك الرّواية الأصل أن تحقّق حلم الجسد المكلوم بالتحوّل، فجعل التخييل الفضاء يتّسع ليعيد خلق عوالم حول تلك الشخصية، كما اشتهت ورغبت أن تكون، في رواية كتبتها إحدى شخصيات الرواية الأصل ليطلق فيها الجسد أنوثته المكبّلة".
ترى بوبكر أن الكتابة أشبه بحالة المخاض العسيرة وحالة الوحام، والقلق والتوتر، ولكن هذا لا ينفي متعتها في تحدّي كل تلك الأحاسيس وتحدي الورقة البيضاء، والعبارة المستعصية والزمن القصير الذي لا يسع كل ما تنوي إنجازه، وفق فكرة هيبوقراط "الحياة قصيرة والفنّ مديد".