مسمَّى 'القصة الشاعرة' جناية جديدة على الشعر

القصة الشاعرة في ظل نماذجها المتداولة ومفهومها المعروف لدى كتَّابها ما هي إلا شكل جديد من أشكال الكتابة التي لا علاقة لها بالشعر إلا من حيث انتحال اسمه دون صفته.

استمرارًا لتيارات الحداثة التي لا نعرف إلى أين تنتهي ظهر في السنوات الأخيرة جنس جديد من أجناس الكتابة تم الترويج له تحت مسمى "القصة الشاعرة"، وبعرض هذا الجنس على مقوِّمات هذين المصطلحين اللذين أُدرِج تحتهما، يتضح خلوُّه من المعايير الثابتة لكل منهما.
 فلا يلتزم هذا الجنس الوليد بالوزن والقافية اللَّذَيْن هما أساس الشعر وهما السبب في اختصاصه باسم الشعر دون سائر العلوم، وبذلك يخرج هذا اللون الجديد عن نطاق الشعر إضافة إلى قصوره أيضا عن تطبيق معايير الفن القصصي تطبيقا صحيحا.
وقد أطال أنصار هذا الجنس الوليد في تقريظه وتحليل نماذج منه، محاولين التأصيل له باعتباره فنًّا أدبيًّا جديدا له قواعده التي ينبني عليها ويمتاز بها عن غيره من فنون الأدب بحسب رؤيتهم، ونحن لا نمنعهم من تَقْعيد فنهم المبتكَر، ولكن نطلب منهم أن يبحثوا له عن اسم يوافق توصيفه الذي يلائم مقوماته.
ومسألة جمعِ القص مع الشعر في قالب فني واحد هي مسألة قديمة قدم الشعر، الذي هو ديوان العرب، ومن خلاله سجلوا كل ما يتعلق بهم، فنجد لديهم "الشعر القصصي"، الذي سردوا فيه قَصصهم، الواقعي منه والخيالي، فرووا فيه أمجادهم، ودونوا فيه حروبهم، وعبَّروا فيه عن ثقافتهم، فكثير من أشعارهم اشتملت أغراضها على مقوِمات الفن القصصي، ولكن تم ذلك بطريقة فنية وعفويَّة في آنٍ واحد.
 فأما فنيتها فتكمن في الالتزام بمعايير الفن الرئيسي وهو الشعر، فلم ينحرفوا عن ثوابته وهم يتناولون فيه أي موضوع بأية صورة من الصور، وأما عفويَّتها فتكمن في التعامل مع المضمون باعتباره متعلقًا من متعلقات حياتهم التي يصوِرونها في أشعارهم، وهذا الاعتبار جعلهم يعبِّرون بسليقتهم الشعرية المعروفة، دون حاجة إلى الخروج عنها إلى قالب آخر، ولو خرجوا لما كان خروجهم في صورة انحراف عن المعايير أو انسلاخ من المقوِّمات، فهم أصحاب موهبة وإبداع، وصاحب الموهبة يعرف كيف يؤصل لإبداعه، ويستحدث له المسمَّى الذي يناسب معاييره، كتأصيلهم مثلًا لفنِّ المقامة في العصر العباسي.
أمَّا ما تأتي به تيارات الحداثة من أجناس جديدة، سواء أصحَّ إدراجها ضمن فنون الأدب أم لم يصح، فهي في كل حال لا يمكن إدراجها تحت فنٍّ بعينِه له معاييره وثوابته، إلا في حال التزامها بتلك الثوابت والمعايير.
والخلاصة في شأن ما يسمى بالقصة الشاعرة، أن أصحابها إذا كانوا يهدفون من خلالها إلى الجمع بين الشعر وبين القصة بمعاييرهما الفنية في قالب واحد، فلم يأتوا بجديد، لأن ذلك موجود منذ أقدم عصور الأدب، وإذا كانوا -كما يتضح من إنتاجهم- يريدون أن يأخذوا فقط شيئًا من الشعر وشيئًا من القصة ويَبْنوا بناءهم المعروف بصورته التي يكتبونها تلك فقد أخطؤوا التسمية، لأنهم انسلخوا من معايير الشعر، وأما الوزن الذي يبدو في كتاباتهم فليس هو الوزن الذي يقوم عليه الشعر وبه يستقيم، لأن وزن الشعر له طريقته المتوارثة المحصورة في ستَّة عشر بحرا بِصورها المتعارف عليها، أما ما يسمَّى بالقصة الشاعرة فلم يأخذ من ذلك الوزن إلا تفعيلةً أو جزءًا يتم تكراره دون ضوابط، كما هي الحال فيما يسمى بشعر التفعيلة أو أشد.
فالتوصيف الصحيح لما يسمَّى بالقصة الشاعرة أنها نوعٌ من أنواع السرد، إذا اكتملت فيه عناصر القصة فهو منها، أمَّا ما يرِد فيه من وزنٍ فلا اعتبار له، لأنه لا يوصف بالوزن الشعري إلا ما تَحقَّق به الشعر وفق تعريفه العلمي الصحيح، وإلا فإن أي إنسان يستطيع أن يكوِّن جملا متتالية تقوم على وزن تفعيلة أو جزءٍ مكرر، بقصد أو بغير قصد، ولا يسمى كلامه ذلك شعرًا إلا ما يُحقِّق منه الشعر بالفعل.
فالشعر له ثوابته التي إذا فقد أحدها، خرج عن مسمَّى الشعر، والقصة لها معاييرها التي يقبل بعضها التطوير، ويقبل بعضها الاختزال، فيمكن للشعر أن يطوي في ثناياه القصة بكامل عناصرها أو بعضها، ويوصف حينئذ بالشعر القصصي لكن لا يمكن اختزال أو طرح شيء من ثوابت الشعر لأن ذلك يُخرجه عن مفهومه الذي وُضِع له، وانطلاقًا من ذلك فإن ما يسمَّى بالقصة الشاعرة، في ظل نماذجها المتداولة، ومفهومها المعروف لدى كتَّابها، ما هو إلا شكل جديد من أشكال الكتابة لا علاقة له بالشعر، إلا من حيث انتحال اسمه دون صفته.