مشكلة الرِّبا.. مبررات الانتقال من الحرام إلى الحلال

الفقيه ينظر إلى نفسه وتحيط به أسئلة المودعين من أصحاب المال عن حلية الوديعة ولم نسمع قيام احد الفقهاء بدراسة ميدانية لعمل البنوك ولم يطلعوا على سجلات المقترضين من البنوك لتصحيح فتواه او لوضع الدراسة إزاء الفتوى.

بقلم: حسين سميسم

لم يبرر معظم الفقهاء ممن انتقل من حرمة الفائدة البنكية الى حليتها عملهم بطريقة عقلائية ولا روائية، ولم يزينوا انتقالهم هذا بنصوص قرآنية كما جرت العادة، ولم يستشهدوا بنص ناسخٍ واحد لنصوص التحريم، ولا على قاعدة اصولية واضحة لاستنباط الحكم الشرعي، بل اعتمد بعضهم على طريقة قاموسيةٍ مترددةٍ وشاذه، بطريقة الكلمة ومعناها. أقول قاموسية لانها اعتمدت على تفسير كلمة الربا اعتمادا على قواميس كتبت بعد نزول النص القرآني بقرون، حيث اعتمد مؤلفوا القواميس على النموذج القرآني المفسر من قبل الفقهاء والمفسرين الذين فسروا النص، وليس على اساس الاسباب الداعية الى نزول النص وآثاره الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وابعدوا اثر تاريخية المسألة، واقول مترددة لانهم يضمرون الحرمة الاصلية في دواخلهم، فظهر بسبب ذلك اختلاف اراءهم وتخريجاتهم وتبريراتهم، فمنهم من احل صناديق التوفير وحرم ماعداها من معاملات بنكية (الشيخ شلتوت) ومنهم من احل الوديعة في البنك وحرم اخذ القرض من نفس البنك (د . اسماعيل الدفتار) ومنهم من حرم اخذ القرض وايداع الوديعة (ابن باز، الشعراوي، الغزالي) ومنهم من سمح باخذ الفائدة على الوديعة دون ان يشترط نسبة الفائدة حتى لو عرف بها مقدما (بعض من مراجع الازهر والشيعة).

منهم من قال: إن النية (القصد) هي العامل الحاسم ولا عبرة باللفظ، فلو ابتعدت النية عن هدف الربح جاز للمودع في البنك اخذ الفائدة لأنه لم يشترط نسبتها ولم يدر في خلده حصوله على الفائدة، وحصوله عليها مثل الحصول على الهدية غير المحرمة وغير الهادفة للربح وغير المشروطة مسبقا، وكأنه وضع الوديعة بنية القرض الحسن ثم حصل بالصدفة على هدية من البنك . وقال بعضهم بان ربا البنوك هو استثمار ومرابحة وشراكة ومبايعة وهدية وجعالة ومضاربة وانه لا يدخل في مفهوم الربا المحرم، وظهرت في تخريجاتهم كلمة الربا المحلل المفارقة للربا المحرم، وخصصوا الربا المحرم بربا الجاهلية الذي حصرت الحرمة فيه باستغلال حاجة الفقراء (قرض الفقراء)، وهم فئة لا تدخل البنوك ولاتطلب قرضا منها لان قوانين البنوك تمنع اقراض المعدم والمشكوك في قدرته على وفاء الدين، ومن يذهب الى البنك في الوقت الحاضر لا يجد فيه من المراجعين والمتعاملين معه غير التجار والموظفين واصحاب المال، والبنك لايقرض احدا الا بضمانة من عمل او راتب ثابت او ملك يرهنه البنك لغاية التسديد .

لقد عمد الفقهاء المحلون الى بيان الجانب الناصع من الوديعة التي تدر مالا، اما الجانب الاخر الذي يستدين من البنك ويقترض منه لحاجة تجارية او شخصية فلا ذكر لمشاكله، ولا توجد فتوى تمنع البنك من استغلاله، فمن المعروف ان الفائدة البنكية في العراق تتراوح بين 6-- 10 للوديعة الثابتة لمدة سنة، اما المستدين من البنك فأنه يحصل على قرض لنفس المدة بفائدة تتراوح بين 15 - 20 بالمائة، وغالبا مايطلب البنك ضمانة يرهنها لحسابه، وقد افلس كثير من المقاولين العراقيين الذين اخرت الحكومة دفع مستحقاتهم بسبب الغاء ميزانية 2014 او لاسباب اخرى وباعوا املاكلهم باسعار بخسة، وتغاضى عن هذه الحالة الفقهاء المحلون ولم يقترحوا رأيا يخفف من مشاكل هذه الشريحة .

كذلك تغاضى الفقهاء عن الحكم الذي امضاه الاسلام في استرقاق المدين لو لم يسدد ما بذمته من دين، فالذي يعجز عن الوفاء بدينه يسترق (انظر الجامع لاحكام القرآن، القرطبي ص 1155، 1179)، وقد خفف الفقهاء هذا الحكم بسبب الغاء العبودية الى الحبس وخصوا به الاغنياء الذين يتماطلون عن دفع ما بذمتهم، وافتوا بجدولة ديون الفقراء .

ان الفقيه ينظر الى نفسه وتحيط به اسئلة المودعين من اصحاب المال عن حلية الوديعة، ولم نسمع قيام احد الفقهاء بدراسة ميدانية لعمل البنوك، ولم يطلعوا على سجلات المقترضين من البنوك لتصحيح فتواه او لوضع الدراسة ازاء الفتوى. وعندما ينظر الفقيه الى اصحاب المال الذين يرومون وضعه كوديعة في البنك ويحصلون منه على فائدة تحت اسم الهدية او الجعالة او المبايعة فأن الفقيه ينظر الى الجانب المضيء من القمر، ينظر الى الجانب المربح من عمل البنك، وهذه الحالة دفعت معظم علماء الازهر لتبديل ما افتوا به حراما في السابق الى حلال، ولو انهم كانوا قد استدانوا من البنك بتلك النسب لبينوا حكمة الله واعجازه في حرمة الربا .

كان الربا في الجاهلية ليس كما يصوره لنا المحلون ولا المحرمون من الفقهاء، فقد كان العباس عم النبي يعطي التجار ممن يعرف جودة تجارتهم وضمان ربحها ليجني فيما بعد اموالا ربوية طائلة، وكان معظم التجار يتعامل بالربا، فحيثما وجدت التجارة وجد المال الربوي، ومتى ما منعت التجارة سيكون المال الربوي اول ضحية تذبح. اما الفقراء الذين سلط عليهم الفقهاء الضوء وبرزوهم للواجهة لإظهار استغلال المرابي لهم لتحريك العواطف الانسانية عليهم لم يشكلوا الا نسبة ضئيلة في التعاطي مع اموال الربا .لقد كان غرض الفقهاء من ذلك هو القول بان الله عنى هؤلاء في تحريمه الربا نظرا للمشاكل التي اصابت هذا الفئة من الناس فقط، ولا دخل لربا الاستثمار ولا التجارة في ذلك، فكم سيحصل المرابي لو اعطى الفقير او المعدم ربحا ربويا؟  

إن الأموال الهائلة التي جمعها العباس وعبد الله بن جدعان ومجموعة كبيرة من اغنياء قريش هي اموال الربا التي استثمرها التجار في رحلتي الشتاء والصيف، لذلك جادلوا النبي وقالوا ان البيع مثل الربا. وان ذاك الربا مثل هذا مرابحة وهدية وجعالة، والفرق ان ذلك كان بدائيا وهذا حديث. كانت الدولة العباسية تعتمد على اموال المرابين اليهود لتجهير حملاتها الحربية ولا اعطاء رواتب الجند، وكان الوزير علي بن الفرات يستدين من المرابين ليسدد فيما بعد من اموال الخراج، كما كانت خيرية اودة تؤخذ من المرابين اليهود في بغداد بنصف قيمتها تقريبا .

لقد برر السيد طنطاوي شيخ الازهر الفائدة البنكية بمحاولة الاستفادة القصوى من النص القرآني، فقد قال في احدى محاضراته الموجود في النت: ليست كل زيادة حرام لان الله قال في محكم كتابه المبين (واذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شئ حسيبا) (النساء 86) ويتساءل بعد قراءة هذه الآية: هل زيادة التحية ربا؟! فيجيبه الحاضرون: استغفر الله.

لقد بحث رحمة الله عليه في سور القرآن وآياته ولم يجد الا هذه الاية التي عارض بها ست ايات حرمت الربا. لقد ابتعد الفقهاء في مناقشتهم لهذه القضية عن القاعدة الفقهية التي تنص على (العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب) فلو ورد نص شرعي بصيغة عامة مثل الربا وجب العمل بعمومه لا بسبب سؤال او حادثة حدثت وقت نزول الآية، لقد تناسى الفقهاء هذه القاعدة في هذا المورد الشرعي فقط. كما تناسوا قاعدة لا اجتهاد امام النص، ونصوص تحريم الربا وفيرة والاجماع عليها معقود.

كما توجد أسباب اخرى دفعت الفقهاء الى تغيير حرمة الربا منها تدفق الاموال عليهم في ظل الطفرة النفطية، وفي ظل النمو الواسع لأموالهم جراء عملهم في تلك البلدان، وتزايد الاموال الشرعية الممنوحة لهم واشرافهم على كمية كبيرة من التبرعات والهبات فاضطروا الى ايداع اموالهم في البنوك المحلية والاجنبية، واستحدثت بسبب ذلك حالات لم تكن موجودة وقت التشريع، وادى ذلك الى ضرورة وضع تشريعات جديدة لم يكن الفقهاء قد فكروا فيها من قبل، فقد رفض بعض الفقهاء (وقت تحريمهم لفائدة البنوك) استلام الفائدة من البنوك الاجنبية فتبرعت بعض تلك البنوك بفوائد الاموال الى مجمع الكنائس، وقبلها بعض الفقهاء وافتى بعزل الفائدة وصرفها في المشاريع الخيرية، واجاز البعض الاخر قبولها وعدها مالا حلالا بعد ان فتش في بطون الكتب ووجد بعض الروايات التي تنص على وجوب الاضرار بالكافر الحربي مثل اباحة سرقته واخذ المال منه غيلة، وقاسوا بها على عدم حرمة اخذ الربا منه لغرض اضعافه وكسر شوكته.

ثم طوروا تلك النتيجة وتحولت من إباحة اخذ الربا من الكافر الحربي الى اباحة اخذ الربا من عموم الكافر الحربي وغير الحربي، ولأن الآراء تتناسل والخيال لا حدود له طوروا بهذه الاندفاعة الشرعية رأيا جديدا وهو جواز اخذ الربا من الحكومة لأنها مجهولة المالك، وهي رخصة كانت تخص اللقى والكنز المجهول المالك، ثم عممت المسألة بالتدريج وبدأت اسوار التحريم بالسقوط وانفتح الطريق امام أخذ الفائدة من المسلم دون اشتراط سابق والتبرع بنصفها للفقراء المتدينين .

إن من ينظر في هذه المقالة والمقالة التي سبقتها يلاحظ قيام الفقهاء بتغيير احكامهم، وهي مسألة ممكنه ومطلوبة في كثير من الاحيان، لكن المشكلة التي تبرز للعيان هي ان الفقيه يربط حكمه بالشريعة والنصوص وليس بالعقل، وكأن الحكم صادر من الله ونطق به الفقية، وهو يعرف ان فتواه اجتهادية وظنية ويمكن ان يبدلها بعد فترة. كما ربط الفقيه بين الفتوى والعقوبة الشرعية، فلو خرق أحدهم الفتوى وجبت عليه العقوبة، وقد افتى السيد طنطاوي بحق الشخص الذي يأخذ الربا بالتفريق بينه وبين زوجته ولا يرث من المسلمين ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولو طبق السيد الطنطاوي تلك الفتوى على احد ثم غير بعد فترة فتواه كيف سيلغي آثار الفتوى السابقة؟

حلقة من سلسلة حلقات تُشرت تحت عنوان "مشكلة الربا"