مشهد سياسي متقلب يدفع تونس إلى أسوأ أزمة

انهيار أقصر الحكومات عمرا في تونس منذ ثورة 2011 يدفع بالديمقراطية الناشئة في أتون أزمة جديدة بعد الإخفاقات المتعاقبة لقادتها المنتخبين في تحويل الحرية السياسية إلى نجاح اقتصادي.
غياب التجانس بين قوى الائتلاف الحكومي عجل بانهياره
هل تدفع النهضة ثمن الدخول في لعبة الابتزاز السياسي
تحالفات الإسلامي السياسي تسمم المشهد التونسي
النكسات تلاحق قصة النجاح الوحيدة في الانتقال الديمقراطي
تركة ثقيلة من المشاكل تربك أي جهد للإصلاح السياسي والاقتصادي

تونس - ينفتح المشهد السياسي في تونس التي كانت تعتبر إلى وقت قريب قصة النجاح الوحيدة في الانتقال الديمقراطي في المنطقة التي شهدت ثورات على أنظمتها، على وضع قاتم وسيناريوهات مقلقة.

وكان لافتا أن غياب التجانس السياسي بين مكونات الائتلاف الحكومي الذي انهار سريعا باستقالة رئيسه الياس الفخفاخ بعد خلافات مع حركة النهضة الإسلامية، القوة الوازنة والدافعة للتوترات، سيعجل بالأزمة الراهنة.

وتتهم أحزاب المعارضة التونسية وشخصيات من المجتمع المدني حركة النهضة الإسلامية بتسميم الأجواء والتسبب في انقسامات سياسية عميقة بسبب ممارسات رئيسها ورئيس البرلمان راشد الغنوشي.

ودفع انهيار أقصر الحكومات عمرا في تونس منذ ثورة 2011 بالديمقراطية الناشئة في أتون أزمة جديدة بعد الإخفاقات المتعاقبة لقادتها المنتخبين في تحويل الحرية السياسية إلى نجاح اقتصادي.

واستقال رئيس الحكومة التونسية من منصبه بطلب من الرئيس التونسي قيس سعيد وهو أستاذ جامعي مختص في القانون الدستور وكان قد رفض مشاورات أرادت حركة النهضة إجراءها لإقالة الفخفاخ بعد أن رفض توسيع الحزام السياسي للائتلاف الحكومي بما يشمل حزب قلب تونس.  

ولم يتسلم ائتلاف الفخفاخ مقاليد السلطة إلا في فبراير/شباط بعد أشهر من السجالات والتشاحن السياسي في برلمان متشرذم أفرزته انتخابات أجريت في العام الماضي.

وطلب سعيد اليوم الجمعة من الأحزاب والائتلافات والكتل البرلمانية تقديم مرشحيها لرئاسة الحكومة، خلفا لرئيس الوزراء المستقل، وفق إعلام محلي.

وبحسب بيان صادر عن الرئاسة التونسية، فإن سعيد بعث برسالة الأربعاء، إلى رئيس مجلس نواب الشعب (البرلمان) راشد الغنوشي، لإعلامه بتلقيه وقبوله استقالة الفخفاخ وفقا لمقتضيات الفصل 98 من الدستور.

وينص الفصل 98 في بنده الأول على أنه "تعد استقالة رئيس الحكومة استقالة للحكومة بكاملها وتقدم الاستقالة كتابة إلى رئيس الجمهورية الذي يُعلم بها رئيس مجلس نواب الشعب".

وتابع نص بيان الرئاسة أن "سعيد بعث أيضا برسالة ثانية إلى الغنوشي لمده بقائمة الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية، قصد إجراء مشاورات معها وذلك طبقا لما ينص عليه الفصل 89 من الدستور، بهدف تكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة".

وتفضي استقالة الفخفاخ يوم الأربعاء الماضي إلى جولة جديدة من المحادثات في محاولة لتشكيل حكومة. وفي حالة التعثر على هذا الطريق، ستجرى انتخابات جديدة في وقت ترتفع فيه الأصوات مطالبة بقيادة تتسم بالشفافية للتصدي لوباء فيروس كورونا العالمي وتداعياته الاقتصادية.

والمخاطر عالية في تونس التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها قصة النجاح الوحيدة نسبيا في كل دول 'الربيع العربي' الذي انطلقت منها شرارته قبل تسع سنوات بثورة فتحت الباب للديمقراطية.

وتحركت كتل برلمانية لسحب الثقة من الغنوشي بسبب انتهاكه للقانون الداخلي للبرلمان، فيما سبق أن نددت عدة أحزاب بما وصفتها بـ"الدبلوماسية الموازية" التي يقودها الغنوشي في انتهاك لصلاحيات رئيس الدولة وأيضا محاولة جرّ تونس للسياسة المحاور بالاصطفاف مع تركيا وقطر دعما لحكومة الوفاق الوطني الليبية.

وكان الغنوشي قد دعا صراحة إلى موقف تونسي واضح من دعم حكومة الوفاق التي تعترف بها الأمم المتحدة، في تماه مع الموقف التركي وتأييدا لتدخل أنقرة العسكري في ليبيا.

وبدأ متظاهرون أمس الخميس في تعطيل صادرات النفط المتواضعة بإغلاق محطة لتجميع وضخ الخام وهو تكتيك ألحق الضرر بالفعل بصناعة الفوسفات.

في ظل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر، تعيش تونس وقت محاسبة وتدقيق في نموذجها الديمقراطي المعقد وهو مزيج من النظامين البرلماني والرئاسي، لكن بدون محكمة دستورية، الهدف من تشكيلها فض النزاعات، إلا أنه لم يتم إنشاؤها حتى الآن. وثمة خلافات عميقة بين الكتل البرلمانية حول أعضاء المحكمة الدستورية.

عودة الاحتجاجات في حقول النفط بالجنوب التونسي تنذر بتصعيد اجتماعي جديد
عودة الاحتجاجات في حقول النفط بالجنوب التونسي تنذر بتصعيد اجتماعي جديد

ومع رغبة كثير من السياسيين البارزين بمن فيهم الرئيس في تغيير هذا النظام، فإن الحزب الذي حقق أفضل أداء في استطلاع للرأي أجري مؤخرا هو حزب مؤيد للنظام السابق الذي أطاحت به ثورة يناير/كانون الثاني 2011.

وقال المحلل السياسي يوسف شريف "مبعث خوفي هو أننا داخلون في حقبة من الاضطرابات ولا نملك قوة سياسية كافية لمواجهتها... إنه سيناريو قاتم للغاية".

وأمام السياسيين الآن مهلة حتى أواخر أغسطس/آب لتشكيل حكومة جديدة تحظى بدعم الأغلبية في البرلمان، لكنهم سيواجهون الصعاب في التغلب على الانقسامات التي عجزت قوى ائتلاف الفخفاخ في مواجهتها.

وفي خضم هذا المشهد المتقلب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا فإن أكبر الأحزاب هو حزب النهضة الإسلامي وهو الثابت الوحيد المستمر في الوجود بالحياة السياسة التونسية منذ الثورة والذي يسعى للهيمنة على الحكم، الأمر الذي أدخل تونس في أسوأ أزمة في تاريخها.

وبعد الثورة ظهرت أحزاب أخرى كثيرة واختفت بسرعة، لكن حزب حركة النهضة لا يشغل سوى ربع المقاعد ويواجه زعيمه راشد الغنوشي تصويتا على سحب الثقة في رئاسته للبرلمان.

في خضم المشهد المضطرب يبرز دور حركة النهضة كقوة وازنة ودافعة لأسوأ مأزق سياسي في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة مالية خانقة بسبب تراكمات سابقة وعلى خلفية تدابير العزل التي اتخذتها السلطات للوقاية من تفشي فيروس كورونا

ويتعلق أكبر أسباب الشقاق السياسي في تونس بالسياسة المالية. وتميل النهضة إلى الوقوف في نفس الخندق مع الأحزاب التي تفضل الإصلاحات التي يطلبها المانحون للحد من الإنفاق والدين العام.

وقال شريف إن الرئيس قيس سعيد يقف على ما يبدو على طرف النقيض مع الأحزاب القومية العربية واللاعب الرئيسي الآخر في السياسة التونسية وهو الاتحاد العام للشغل.

وبدأت بالفعل محادثات مع صندوق النقد الدولي حول برنامج قرض جديد، لكنه كان يريد في السابق إصلاحات اقتصادية قاسية يعارضها معظم أعضاء البرلمان.

وفي البرلمان كانت عبير موسى وهي من أنصار الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وحزبها 'الدستوري الحر' صورة معبرة عن الأجواء السياسية المشحونة بالتوتر.

وفي حركة احتجاجية 'استولوا' أعضاء من الدستوري الحرّ على كرسي رئيس المجلس لمنع الغنوشي من الجلوس عليه، فيما عاد شبح التوتر بين الإسلاميين والعلمانيين للبروز بقوة على الساحة السياسية التونسية وفاقم خطر اندلاع مواجهات بالشوارع بين مؤيدي الفريقين.

ويرفض الحزب الدستوري الحرّ الاعتراف بحزب حركة النهضة كحزب سياسي، مؤكدا أنه تيار اخواني يهدد مدنية الدولة.

وفي خضم هذا المشهد المضطرب يبرز دور حركة النهضة كقوة وازنة ودافعة لأسوأ مأزق سياسي في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة مالية خانقة بسبب تراكمات سابقة وعلى خلفية تدابير العزل التي اتخذتها السلطات للوقاية من تفشي فيروس كورونا.

وكان الوضع أقل سوء رغم التجاذبات السياسية القائمة، إلا أن إصرار النهضة على توسيع الحزام السياسي بما يشمل حزب قلب تونس الذي يتزعمه قطب الأعمال والإعلام نبيل القروي، فجر انقسامات حادة ومعركة ليّ أذرع بين الحركة الإسلامية والفخفاخ.

والمفارقة أن النهضة وحلفاؤها كانوا يرفضون أي تحالف أو شراكة في الائتلاف الحكومي مع قلب تونس، فقد أعلن الغنوشي في مقطع فيديو أن النهضة لن تتحالف مع حزب تحوم حول زعيمه شبهات فساد، في إشارة إلى نبيل القروي الذي كان ملاحقا بتهم تتعلق بالتهرب الضريبي وتبييض الأموال.

كذلك كان قلب تونس قد أعلن على لسان القروي أنه لن يتحالف مع النهضة وائتلاف الكرامة باعتبارهما يمثلان الإسلام السياسي الذي يهدد مدنية الدولة.

لكن تبخرت كل تلك الوعود والتعهدات بعدم التحالف وأصبحت النهضة من كبار المدافعين عن حزب قلب تونس. ودخلت في مواجهة مع الفخفاخ الذي تمسك بحكومة الرئيس.

وطفت الخلافات على السطح عندما ذكرت تقارير أن شركات يملك فيها رئيس الوزراء (المستقيل) إلياس الفخفاخ أسهما استفادت من عقود حكومية. وبعد أن طالب حزب النهضة باستقالته، طلب الرئيس قيس سعيد أيضا منه التنحي.

والمفارقة الثانية هي أن الفخفاخ شغل في حكومتي الترويكا بقيادة النهضة في السنوات الأولى لما بعد الثورة، حقيبتين وزاريتين هما المالية والسياحية وكان على وفاق مع النهضة التي تعرف جيدا سجلات أعضائها وارتباطاتهم المالية والسياسية.

وتقول مصادر سياسية إن الحركة الإسلامية احتفظت بملف تضارب المصالح واستخدمته لابتزاز الفخفاخ، لكن مع رفض الأخير الرضوخ لمطلبها بتوسيع الحزام السياسي للحكومة، ذهبت في التصعيد إلى آخر فصوله.

 لكن الرئيس التونسي الخبير في القانون الدستور نجح في افشال مخططات النهضة بأن طلب من الفخفاخ الاستقالة وهو ما تم بالفعل لتجد نفسها في ورطة خاصة مع استمرار تحرك سحب الثقة من الغنوشي في البرلمان واتجاه المسار السياسي لسيناريو الانتخابات المبكرة وهو أمر لا تريده النهضة التي تآكلت قاعدتها الانتخابية.  

ويرشح الرئيس خلال أسبوع شخصية جديدة لتحاول تشكيل الحكومة. وسيتعين على هذا المرشح خلال شهر اقتراح ائتلاف جديد والحصول على موافقة البرلمان عليه وإذا لم يفلح ذلك، سيتعين إجراء انتخابات برلمانية جديدة هذا العام.

ومما يزيد الموقف تعقيدا، يشهد البرلمان نفسه ارتباكا، حيث يواجه رئيسه راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة، اقتراعا على الثقة.

ويعتقد بعض المحللين أن السبيل الوحيد للخروج من الأزمة هو إجراء انتخابات جديدة، وفرصة خروجها ببرلمان أكثر تجانسا يمكن أن يتفق على حكومة مستقرة قادرة على إقرار التشريعات.