مصر والعراق... وغزّة

مدى جدية التوجه القيادي لمصر سيكون محل اختبار في غزة، قبل العراق.
لا خيار آخر امام مصر غير ممارسة دور إقليمي
لمصر اوراقها وهي ابعد ما تكون عن التعاطي مع الشعارات الفارغة
الكاظمي يعرف عمق العلاقة بين الحشد وايران لكن عليه تدوير الزوايا في مرحلة صعبة ودقيقة

اكثر من ايّ وقت، يبدو مطلوبا من مصر ممارسة دور على الصعيد العربي على الرغم من كلّ الهموم التي تحيط بها بدءا بغزّة، مرورا بليبيا، وصولا الى سدّ النهضة الاثيوبي. لا خيار آخر امام مصر غير ممارسة دور إقليمي. ذهب رئيسها عبدالفتّاح السيسي الى بغداد للمشاركة في القمة المصريّة – العراقيّة – الاردنيّة. هذا يدلّ على رغبة في السعي الى احداث تغيير في المنطقة على الرغم من كلّ الصعوبات القائمة.

هناك رئيس مصري في بغداد للمرّة الأولى منذ واحد وثلاثين عاما. في مثل هذه الايّام من العام 1990، سعى الرئيس الراحل حسني مبارك الى التوسّط بين صدّام حسين وامير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد تفاديا لما حصل لاحقا، أي لاجتياح عراقي للكويت. كان هذا الاجتياح مغامرة مجنونة غيّرت المنطقة جذريا وادّت الى ضياع العراق في نهاية المطاف.

لا شكّ انّ الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس المصري لبغداد ترتدي اهمّية خاصة في ضوء التحولات التي شهدها العراق في العقود الثلاثة الأخيرة. تختزل هذه التحوّلات العراقيّة التاريخ الحديث للمنطقة في ضوء صعود قوى غير عربيّة ثلاث هي ايران وتركيا وإسرائيل.

استطاعت مصر في الماضي تغيير المنطقة كلّها. كان ذلك التغيير ابان حكم جمال عبدالناصر الضابط الآتي من الريف العاجز، بسبب ثقافته المتواضعة، عن فهم معنى المدينة المصريّة بتنوّعها السكّاني على وجه الخصوص. لم يستوعب في ايّ لحظة خطورة مغادرة الجاليات الاجنبيّة للمدن المصريّة، مثل القاهرة والاسكندريّة والاسماعيلية، بعد تأميم قناة السويس في العام 1956.

جعل ناصر العرب عموما يدخلون في حال من اللاوعي الجماعي. بين اخطر ما ادّت اليه تلك الحال الانقلاب العسكري الذي وقع في العراق في 14 تموز – يوليو 1958 الذي كان آخر يوم ابيض في البلد.

ما آل اليه العراق منذ 1958، تاريخ المجزرة في حق العائلة المالكة الهاشميّة، ليس سوى مأساة من بين المآسي التي تسبب بها جمال عبدالناصر الذي وضع الحجر الأساس للنظام الأمني في سوريا ابان عهد الوحدة المشؤوم (1958- 1961) ثمّ ما لبث ان اخذ العرب الى هزيمة 1967 التي لا تزال المنطقة والشعب الفلسطيني يعانيان من ذيولها.

تغيّرت المنطقة كثيرا منذ حدوث الزلزال العراقي في العام 2003 وتسليم إدارة جورج بوش الابن العراق على صحن من فضّة الى "الجمهوريّة الاسلاميّة" ونقلها لقادة الميليشيات المذهبيّة العراقيّة التابعين لإيران الى بغداد على دبّابة اميركيّة. بعد 2003، فقدت المنطقة كلّها توازنها. يجعل فقدان التوازن، المستمر الى اليوم، من الدور المصري حاجة إقليمية، لكن السؤال الذي سيطرح نفسه بإلحاح مرتبط أساسا بمدى قدرة مصر على لعب دور إيجابي في ظلّ النفوذ الإيراني الذي يطلّ برأسه يوميا.

لا شكّ أنّ مصر تمتلك أوراقا كثيرة من بينها النجاح الذي حققه السيسي منذ العام 2013 في مجالات مختلفة في مقدّمها الاقتصاد. لعب دورا في تمكين مصر من التقاط أنفاسها داخليا بعدما كاد الاخوان المسلمون يقضون على البلد، فيما راحت ايران تستغلّهم على طريقتها. ما قد يساعد مصر في لعب دور إيجابي في العراق، على خلاف الدور الذي لعبه جمال عبدالناصر في خمسينات القرن الماضي وستيناته، التنسيق القائم بين القاهرة وعمّان. اثبتت التجارب ان الملك عبدالله الثاني يمتلك رؤية فريدة من نوعها بالنسبة الى الاحداث الدائرة في المنطقة. لم يكتف في آب – أغسطس 2002 بتحذير بوش الابن مباشرة من غزو العراق ونتائج ذلك على المنطقة، بل كان في تشرين الاوّل – أكتوبر من العام 2004، الوحيد الذي حذّر في حديث الى "واشنطن بوست" من "الهلال الشيعي" الممتد من طهران الى بيروت عبر بغداد ودمشق. لا عداء لدى العاهل الأردني للشيعة بايّ شكل، على العكس من ذلك، هناك علاقة متميّزة ربطت دائما الهاشميين بالشيعة. كان عبدالله الثاني في الواقع يحذّر من استخدام إيراني للغرائز المذهبيّة في سياق سعيها الى تنفيذ مشروعها التوسّعي الذي اخذ بعدا جديدا بعد سيطرتها على العراق.

لا شكّ ان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يتعرّض حاليا لضغوطات كبيرة مصدرها ايران. كان آخر دليل على ذلك اضطراره الى حضور العرض العسكري لـ"الحشد الشعبي" السبت الماضي بصفة كونه القائد الاعلى للقوات المسلّحة. يعرف الكاظمي، قبل غيره، عمق العلاقة بين ميليشيات "الحشد الشعبي" من جهة وايران من جهة أخرى. لكنّ عليه تدوير الزوايا في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة التي يمرّ فيها بلده الباحث عن توازن بين العالم العربي من جهة و"الجمهوريّة الاسلاميّة" من جهة اخرى.

سيكون لمصر قدرة اكبر على لعب دور إقليمي، بما في ذلك في العراق، في حال نجاحها في غزّة. ففي القطاع، القريب منها، تواجه مصر كلّ أنواع التحديات، بما في ذلك النفوذ الإيراني داخل "حماس". هناك أيضا النفوذ التركي في غزّة الذي سيتوجب على مصر اخذه في الاعتبار. من غزّة سيتقرّر ما اذا كانت مصر ستكون قادرة على لعب دور إقليمي فعّال على كلّ صعيد. الدور الفعّال يعني الدور الإيجابي الذي يساعد المنطقة كلّها في استعادة بعض توازنها، وليس كلّه في طبيعة الحال.

في وقت كان إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" يجول في المنطقة ويتحدّث عن "انتصارات" على إسرائيل، فيما اهل غزّة في الحضيض، كانت مصر تتوسّط مع إسرائيل من اجل تمرير كمية من الوقود تساعد في تشغيل مولدات الكهرباء في غزّة. هذه خطوة مهمّة تصب في اتجاه رفع الحصار الاسرائيلي عن القطاع. تظهر هذه الخطوة ان لدى مصر اوراقها وانّها ابعد ما تكون عن التعاطي مع الشعارات الفارغة. على العكس من ذلك، هناك أساس لدور مصري انطلاقا من غزّة في ظلّ إدارة أميركية بذلت جهودا كبيرة وضغطت على اسرائيل من اجل وقف حرب الاحد عشر يوما الأخيرة...

سيتبيّن في الايّام القليلة المقبلة الى أي حدّ ستذهب مصر في لعب دورها في غزّة وإخراج أهلها من حال الحصار فعلا بدل اطلاق الشعارات الوهميّة الذي تشجع عليه ايران وتركيا ومدرسة الاخوان المسلمين بكلّ فروعها.