مصير المنطقة يتقرّر في العراق

تكمن اهمّية كلّ ما يجري في العراق في انّه موجّه ضد ايران، مباشرة وعلنا.

ليست معركة العراق سوى معركة تقرير مستقبل المنطقة كلّها. هل يكون العراق ارضا تسرح فيها الميليشيات المذهبية التي ترعاها "الجمهورية الإسلامية" التي تأسست في العام 1979... ام لا؟ بكلام أوضح، تسعى ايران الى وضع يدها على العراق بشكل نهائي، وكانت على قاب قوسين او ادنى من ذلك بعدما تمكنت من فرض عادل عبدالمهدي رئيسا للوزراء بعد انتخابات ايّار – مايو 2018 على الرغم من انّه لا يمتلك قاعدة شعبية تذكر. اخترعت ايران قاعدة لعبدالمهدي من اجل استبعاد حيدر العبادي عن موقع رئيس الوزراء. سعى العبادي، على الرغم من انتمائه الى حزب الدعوة الإسلامية المعروف بتعصّبه وفكره المتزمت، الى امتلاك هامش من الحرّية عن ايران طوال السنوات التي تولّى فيها موقع رئيس الوزراء خلفا لنوري المالكي.

اكتشف العبادي متأخّرا ان ذلك ليس ممكنا وان التحالف الذي كان مفترضا ان يعيده الى موقع رئيس الوزراء لن يصمد امام الضغوط الايرانية التي تمارس عبر وسائل وشخصيات وميليشيات مذهبية مختلفة. بين هذه الشخصيات، مقتدى الصدر، الذي كان ينادي في الامس القريب بالقرار العراقي المستقل... فاذا به يعود الى لعب الدور المطلوب منه لعبه، أي الدور المرسوم له في طهران بعد اعلان ولائه لـ"المرشد" علي خامنئي مجدّدا.

لا بدّ من العودة الى احداث وتواريخ معيّنة للتأكّد من ان الذي يجري في العراق نتيجة تراكمات مكنت ايران من القول انّها باتت تمسك اخيرا بكلّ خيوط اللعبة العراقية لو لم تفاجأ بحجم الحراك الشعبي المعادي لها والذي رأس حربته شيعة العراق من العرب. لم يقترب العراق من فم ايران مقدار ما اقترابه منذ العام 2018، خصوصا بعد الانتخابات التشريعية التي أجريت في تلك السنة. كشفت نتائج تلك الانتخابات الثقل الايراني في العراق من جهة وغياب السياسة الاميركية الواضحة من جهة أخرى.

لا يتعلّق الامر بالعراق وحده بمقدار ما يتعلّق بالمنطقة كلّها حيث لا همّ لدونالد ترامب سوى تفادي ايّ مواجهة عسكرية مع ايران. وهذا ما تبيّن بوضوح ليس بعده وضوح بعد اسقاط صاروخ إيراني لطائرة تجسّس اميركية فوق مضيق هرمز في حزيران – يونيو الماضي.

يخشى الرئيس الاميركي في الواقع ان تؤدي أي مواجهة عسكرية الى القضاء على امله في العودة الى البيت الأبيض ثانية. انّه رئيس لا همّ لديه سوى انتخابات تشرين الثاني – نوفمبر 2020. امّا العراق والعراقيون وسوريا والسوريون ولبنان واللبنانيون، ففي استطاعتهم الذهاب الى الجحيم...

قرّر العراقيون اخذ امورهم بيدهم، تماما كما قرّر اللبنانيون الذين اكتشفوا في تشرين الاوّل – أكتوبر 2019 انّهم يعيشون في ظلّ عهد "حزب الله"، النزول الى الشارع والمطالبة بتغييرات كبيرة بدءا بالحكومة. استقالت الحكومة التي يرئسها سعد الحريري استجابة لمطالب الأكثرية الشعبية اللبنانية وذلك على الرغم من مطالبة "حزب الله" بابقائها غطاء له...

تكمن اهمّية كلّ ما يجري في العراق في انّه موجّه ضد ايران، مباشرة وعلنا، وضدّ مشروعها التوسّعي الذي كانت له انطلاقة جديدة بعد الاحتلال الاميركي للعراق في العام 2003 وعودة زعماء الميليشيات المذهبية العراقية الى بغداد على ظهر دبّابة أميركية. بات زعماء هذه الميليشيات في معظمهم، يشكلون قيادة "الحشد الشعبي" الذي يفترض ان يكون الأداة الايرانية التي تستخدم في السيطرة على العراق، على غرار "حزب الله" في لبنان.

من الطبيعي في ظلّ هذه المعطيات ان تلقي ايران بثقلها لقمع التحرّك الشعبي في العراق. لم يكن العراق في ايّ يوم لقمة سائغة لإيران مثلما هو منذ تولي عادل عبدالمهدي موقع رئيس الوزراء. تفوّق عادل عبدالمهدي على نوري المالكي الذي قبل بعد العام 2010 ان يكون مجرّد أداة إيرانية طيّعة من اجل البقاء في موقع رئيس الوزراء قبل ان تطيحه احداث الموصل وفضيحة تسليمها الى "داعش" في حزيران – يونيو 2014.

من العراق، انطلقت ايران بعد 2003 في كلّ الاتجاهات. عززت وجودها في سوريا، كذلك في لبنان، خصوصا بعد اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005. ستعمل ايران كلّ ما تستطيع من اجل البقاء في العراق، او على الاصحّ، من اجل بقاء العراق مستعمرة إيرانية. هذا ما يفسّر كلّ الجهد الذي يبذله قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الايراني من اجل القضاء على أي مقاومة عراقية للوجود الايراني. هذا ما يفسّر أيضا تمسّكه بعادل عبدالمهدي. وهذا ما يفسّر أيضا كلّ الجهود التي تبذلها ايران من اجل تفادي قيام جيش وطني عراقي له حيثيته ولو وزنه وله ضباطه الذين لا ولاء لديهم سوى للعراق.

ستكون معركة العراق طويلة. في ضوء نتيجتها ستقرّر موقع ايران على خريطة المنطقة. هناك حلم إيراني كاد ان يتحقّق لو لم ينتفض العراقيون. كان امل آية الله الخميني الذي عرف كيف يجيّر الثورة الشعبية الايرانية على نظام الشاه لمصلحته، بسقوط العراق سريعا. لكن آمال الخميني في 1979 و1980، خابت بعد خوضه حربا مع العراق استمرّت ثماني سنوات انتهت بشبه انتصار عراقي. استفاد الخميني كثيرا من تلك الحرب وذلك عندما ارسل الجيش الى الجبهات وابعده عن المدن. سمح له ذلك بتعزيز وضع نظامه الذي يعتمد على "الحرس الثوري" اكثر بكثير من اعتماده على الجيش النظامي الذي طالب قادته الشاه بالحسم باكرا في الشارع، لكنّه رفض الاستماع اليهم.

بعيدا عن العقل السياسي التبسيطي لصدّام حسين، صمد العراق ثماني سنوات في المواجهة مع ايران. هذا يعود الى عوامل عدّة في مقدّمها الشعب العراقي نفسه الذي خيّب آمال الايرانيين الذين كانوا يعتقدون ان شيعة جنوب العراق في انتظار الساعة التي يقتربون فيها من الحدود كي يرموا السلاح.

منذ 1979، لا تزال المعركة مستمرّة. انّها بين ايران والشعب العراقي الذي يرفض الاستسلام. لا يوجد ادنى شكّ بان معركة العراق اهمّ بكثير من معركة لبنان، نظرا الى ان مستقبل النظام الايراني على المحكّ. لو لم يكن الامر كذلك، لما كانت تلك الاستماتة الايرانية في رفض أي تغيير في العراق، بما في ذلك تغيير عادل عبدالمهدي الذي خدم عسكريته، من الزاوية الايرانية، ولم يعد امامه في نهاية المطاف سوى الاستقالة بدل البقاء اسير لعبة هي جزء من معركة طويلة وخطيرة.

لا بدّ لهذه المعركة من الانتهاء يوميا، علما انّه يبقى هناك سؤال - لغز لا مفرّ من طرحه: هل مسموح اميركيا ان تسيطر ايران على العراق وثرواته ام لا، وذلك على الرغم من كلّ ما فعله جورج بوش الابن بتقديمه العراق على صحن من فضّة الى ايران؟