مطروح.. محاولة لاستعادة تاريخ البشرية

الصلة تعمقت بالمدينة وتحولاتها العمرانية والثقافية من خلال احترافي للصحافة الأدبية وترددي على أهل مطروح المبدعين وضيوفهم الوافدين من الوادي
الشاعر إسماعيل عقاب كان نواة تتجمع حولها كوكبة من شعراء مطروح
عقاب كان صخرة قوية في وجه أصحاب دعاوى الحداثة والتغريب وإغراءاتها

بقلم: مصطفى عبدالله

مرسى مطروح.. مصيفي الأثير.. والمدينة التي أتردد عليها سنويًا منذ عام 1960 وأنا بعد طفل في السادسة، وكانت المدينة أيضًا طفلة على فطرتها؛ لا أسفلت فيها ولا أعمدة إضاءة ولا أرصفة ولا بلاجات، فقط مساحات لا نهائية من الجمال الرباني؛ رمال بيضاء ناعمة وأميال من المياه الفيروزية الشفافة وسماء زرقاء صافية في مقابل بقاع صخرية تشي بعمر هذه المدينة الضارب في عمق التاريخ، مثلما في حمام كليوباترا، وشاطئ الغرام، أو في صخور عجيبة التي لا مثيل لها، تلك المنطقة التي كنا نصلها بسيارات "الجيب" التابعة لهيئة تعمير الصحاري؛ فقد كان عمي الراحل المهندس أحمد جميل، أحد هؤلاء الفرسان الأول الذين انضموا إلى كتائب تعمير هذه الصحاري، ومن خلاله عايشت بدو مطروح عن قرب، وتعرفت على طبيعة حياتهم التي لم تكن المدنية قد أفسدتها. 
وتعمقت الصلة بالمدينة وتحولاتها العمرانية والثقافية من خلال احترافي للصحافة الأدبية وترددي على أهل مطروح المبدعين وضيوفهم الوافدين من الوادي، ولا بد أن أعترف بفضل صديقي الراحل الشاعر المهندس إسماعيل عقاب في هذا المجال، فقد كان نواة تتجمع حولها كوكبة من شعراء مطروح مثل: إبراهيم عبدالسميع، وإبراهيم خليل، ومحمد عزيز، وجمال الدربالي، وأسماء كثيرة أخرى كان لعقاب دور في تقديمها لمراكز الضوء والنشر والإشعاع الثقافي والإعلامي في القاهرة والإسكندرية أيضًا، بعد أن نجح في تأسيس صالون دعا لافتتاحه نجوم الشعر والرواية والصحافة والإذاعة والتليفزيون في العاصمة. ومن فرط تقدير السلطة التنفيذية لفضله على مطروح أطلقت اسمه - في حياته - على الشارع الذي يقيم فيه.
مطروح حسمت تاريخ البشرية

المحافظ أثنى على الجهد الذى تبذله الهيئة لنشر الثقافة في ربوع مصر من أقصاها إلى أقصاها دون أن تغفل المناطق الحدودية والمناطق النائية التي تتعطش للتواصل مع الفنون والثقافة المصرية

مرت الساعات الخمس التي نهبت فيها الحافلة الطريق من القاهرة إلى مطروح دون أن نشعر بها بعد أن تطَّوع جرَّاح من أشهر جراحي الكُلى والمسالك البولية في بلادنا، الدكتور محمد دعبس، بالقيام بدور المرشد السياحي عندما ترك مقعده وجلس إلى جانب سائق حافلتنا وأخذ يطلعنا على تاريخ هذه الأرض التي نمر عليها، ويعدد لنا أجناس وألوان مَنْ مروا عليها قبلنا من قادة الجيوش الغازية والفاتحة من قبل ميلاد السيد المسيح من قمبيز القائد الفارسي الذي جاء في عام 529 ق. م لغزو مصر بعد وفاة أحمس وضعف مصر، فمر بهذا الطريق قاصدًا واحة سيوة لزيارة معبد الإله آمون، لكن وجوده في مصر لم يمتد طويلًا؛ فقد هبت عليه العواصف التي أنهكته فحنق على الإله آمون، وغادر مصر بعد أن قامت ثورة ضده في بلاد فارس، وأثناء عودته وافته المنية في الشام.
إلى الإسكندر الأكبر الذي مات والده فيليب المقدوني وهو في العشرين من عمره فأصبح ملكًا على مقدونيا، وسلك الطريق الذي نسير عليه نفسه عندما جاء إلى مصر في عام 320 ق. م قاصدًا معبد الإله آمون ليتوجه كهنة المعبد ابنًا لهذا الإله، وبهذا تتحقق نبوءة أم الإسكندر بأنه ابن آمون وعليه أن يستشيره قبل أن يمضي في فتوحاته، وهكذا خرج الإسكندر المقدوني من معبد آمون بسيوة ليبدأ غزواته وفتوحاته على امتداد 9 سنوات وصل فيها إلى الهند وجبال آسيا التي عبرها إلى الصين، فأتيح له حكم نصف العالم القديم. ومن فرط إيمان الإسكندر بأنه ابن الإله كان حريصًا على أن يبعث رسله محملين بالهدايا إلى معبد آمون في سيوة عقب كل فتح، وقد كانت وصية الإسكندر أن يدفن إلى جوار آمون في واحة سيوة إلا أنه عندما مات بلدغة حشرة في الهند وحُمِلَ جثمانه إلى مصر رأى حاكمها بطليموس أن يدفن في ثرى الإسكندرية التي تنتسب إليه.
ويتوقف مرشدنا الدكتور محمد دعبس أمام كليوباترا ملكة مصر التي سلكت هي الأخرى هذا الطريق متجهة إلى شواطئ مطروح بعد أن اختار مهندسوها أجمل بقعة على المتوسط لتكون حمامًا طبيعيًا لها باقيًا حتى الآن على شاطئ مطروح، ولا ينسى مؤرخنا الدكتور دعبس أن يعود بنا إلى علاقة كليوباترا باثنين من قادة الرومان الذين شنوا حملات على مصر أثناء حكمها: يوليوس قيصر الذي أسرته بذكائها وجمالها وأنجبت منه قيصرون، وبعد اغتياله تزوجت قائدًا رومانيًا آخر هو مارك أنطونيو الذي جاء بحملة بحرية على مصر للسيطرة عليها فإذا به يصبح معشوقًا لكليوباترا التي حاولت أن تقنعه بأن يستقل بمصر عن الإمبراطورية الرومانية.
وما إن نصل إلى العلمين حتى يستعيد مؤرخنا الدكتور محمد دعبس ما دار على أرضها من معارك شهدت بداية هزيمة دول المحور "روميل"، وانتصار الحلفاء "مونتجمري" في الحرب العالمية الثانية، بعد أن تقابل الجيشان في معركة العلمين شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب 1942 وانتصر الحلفاء بقيادة روميل.
وتخلد هذه الحرب ثلاثة نصب تذكارية لمقابر بها رفات الجنود والقادة الذين قتلوا في المعركة: النصب التذكاري البريطاني "الكومنولث" وهو حديقة بها مقابر جنود الإنجليز وحلفائهم من أكثر من عشر جنسيات من دول الكومنولث "الهند – أيسلندا – باكستان – جنوب إفريقيا – نيجيريا – سيلان – نيوزيلندا".
وفي مدخل الحديقة لوحة كتبت عليها هذه العبارة:
"أسماء الجنود والطيارين التابعين للإمبراطورية البريطانية ودول الكومنولث البريطاني الذين ماتوا بشرف في معركة العلمين – تحية تقدير وإجلال".
والنصب التذكاري الألماني وهو على مسافة 10 كم من المقابر الألمانية على مرتفع على شكل مبنى دائري له قاعدة مربعة على مساحة تقارب مبنى مجمع التحرير، داخله قاعة فسيحة حول جدرانها أرفف في صفوف أعلى بعضها، وعلى كل رف اسم الجندي الألماني ورفاته ومتعلقاته. وسقف القاعة مغطى بالزجاج ليسمح بدخول الشمس والضوء، فيما كتب على المقبرة "الموت لا يعرف الأوطان".

والنصب التذكاري الإيطالي وهو يبعد 3 كم عن المقبرة الألمانية على شكل دائري على ربوة عالية تشرف على البحر مباشرة، وتبعد عن الطريق الرئيسي حوالي كيلومتر واحد، وهي على هيئة بواكي ترفرف عليها الأعلام المصرية والإيطالية.
هذا بالإضافة إلى متحف آثار العلمين الذي يضم الآثار المتبقية من الحرب العالمية من أسلحة ودبابات ومدافع وبنادق وملابس وطرق الانتقال والخرائط التي استخدمت في الحرب. وفي المنطقة أكثر من 23 مليون لغم وهناك مشروع لإزالتها باستخدام الروبوت بالتعاون مع اليابان بتكلفة تصل إلى ملياري دولار.

هذه هي المحافظة التي تستضيف مؤتمرنا في دورة 2018، مع الإشارة إلى أنها ليست أول دورة تستضيف فيها محافظة مطروح مؤتمر أدباء مصر؛ فقد سبق أن حضرت إحدى دورات هذا المؤتمر عندما كنت مستشارًا لهيئة قصور الثقافة - قبل نحو عشر سنوات - كان ذلك أثناء رئاسة الدكتور أحمد مجاهد للهيئة، بل إنني حضرت قبل ذلك العديد من مناسبات مطروح الثقافية على امتداد أكثر من أربعين عامًا، وقد أتاح لي ذلك فرصة ذهبية للاقتراب من مبدعي هذه المحافظة - سواء من أهلها الأصليين، أو ممن اجتذبتهم إليها من مبدعي مصر كلها فأقاموا فيها وأضحوا من أهلها وربما دفنوا في ثراها.
كما صحبت مبدعين من أصحاب الأسماء اللامعة عندما حلّوا ضيوفًا على محافل مطروح الثقافية - العامة منها والخاصة أيضًا - ولا تزال الذاكرة تحفل بصورهم هنا في مطروح: طاهر أبو فاشا، أحمد عبدالمعطي حجازي، جلال العشري، عبدالمنعم الأنصاري، هيام أنور أبو الحسين، ماهر شفيق فريد، فاروق شوشة، محمد إبراهيم أبوسنة، محمد جلال، عزة بدر، حازم هاشم، وغيرهم.
ومما لاشك فيه أن وجود شاعر مثل إسماعيل عقاب على هذه الأرض أفاد مبدعي مطروح كثيرًا وقد أتاحت لي الظروف أن أعرفه عن قرب، ولازلت أتذكر مبادرته لإنشاء صالون مطروح الأدبي في بيته، وقد نجح في أن يجعل من افتتاحه حدثًا ثقافيًا يرتبط بالتاريخ الثقافي لهذه المحافظة، وأشهد أن نهضة مطروح الثقافية كانت هاجسه طوال حياته.
وفي كلمتي التي ألقيتها في احتفالية هيئة قصور الثقافة بتكريم اسم عقاب بعد رحيله في "وكالة بازرعة" بالقاهرة حاولت أن أوضح الأسباب التي ميزته عن غيره من المبدعين، وجعلته شخصية مقتحمة قادرة على مد الجسور مع مؤسسات ثقافية وشخصيات أدبية مرموقة في العالم العربي، وأشرت إلى أفضاله على الساحة الأدبية في مطروح، التي اختار أن يعيش فيها، رغم أنه من أبناء البحيرة، وتعرضت لشيوع مفردات البادية والفروسية في معجمه الشعري، وتحدثت عن التجربة التي جمعتنا في إصدار ديوانه "هي والبحر" عن قطاع الثقافة بدار أخبار اليوم، وهو الديوان الذي يتميز بتقديم رؤية تشكيلية أبدعها الفنان الدكتور محمد طه حسين لتصاحب الرؤية الشعرية لعقاب، فأضحى ديوانًا فريدًا. 
ومن جانبه قال المبدع المطروحي علاء أبو خلعة إن عقاب واحد من الأصوات المتميزة في باب القصيدة العمودية، هذا فضلًا عن اكتمال رحلته الشعرية التي امتدت لعقود أربعة نشر خلالها ستة من الدواوين الشعرية مثلت تطورًا في الرؤية باتجاه الاكتمال والنضج الفني، كما أن له دوره البارز في إثراء الحركة الأدبية والثقافية.

نشر ديوانه الأول "خطوات الأمل المعصوب" عام 1979، ثم جاء ديوانه الثاني "من وحي عينيها"، ليمثل مرحلة البدايات، ومن خلاله بدأ يشق طريقه في عالم الشعر مجربًا أشكالًا مختلفة، مازجًا بين نمط القصيدة الخليلية والشعر التفعيلي.
ثم يأتي الديوان الثالث "هي والبحر" الذي صدر عام 1989 ليصبح البداية الحقيقية لشهرة عقاب، ويحظى الديوان وصاحبه باهتمام القراء والنقاد.
ثم نشر ديوانه الرابع "حديث الموج للصخور" عام 1998، والخامس "سيدة الفصول" عام 2005، ويمثلان وصول التجربة إلى قمتها، في حين يأتي الديوان السادس "العزف بأنامل محترفة" ليمثل تجديدًا في مسيرته الشعرية بانتماء نصوصه إلى نمط العروض الجديد، وهي التي تعكس مثالًا جيدًا لهذا النمط الحديث.
وكان عقاب صخرة قوية في وجه أصحاب دعاوى الحداثة والتغريب وإغراءاتها في وقت شهد عنفوانها؛ فقد كان حالة متفردة اعتمد كثيرًا على الصورة الفنية، وكانت له رؤيته الخاصة للواقع.
ومن المناسبات المهمة في تاريخ مطروح الثقافي افتتاح قصر ثقافة مرسى مطروح في أغسطس/آب 2009 بعد تجديده وتطويره بتكلفة اجمالية قدرها ثمانية ملايين ونصف مليون جنيه.
ولا تزال الذاكرة تذكر أن هذا الحفل بدأ بديفيليه تضمن استعراضًا للخيول والعروض الفنية لفرق البحيرة للفنون الشعبية، والآلات الشعبية، وفرقة التنورة، وأطفال قصر ثقافة مرسى مطروح، تلت ذلك فقرة فنية لفرقة مرسى مطروح للفنون الشعبية.
وأعقب ذلك افتتاح معرض "مراسم سيوة" الذى ضم إبداعات 13 فنانًا وتم تفقد المرسم الملحق بقاعة عرض الفنون التشكيلية بالقصر، ثم افتتحت المكتبة العامة بعد تطويرها، وقد ضمت 7934 عنوان كتاب للكبار، وألقت إحدى شاعرات مطروح قصيدة عبرت فيها عن سعادة أهالي المدينة ومثقفيها بافتتاح القصر بعد تطويره. 
بعد ذاك تم استعراض قاعة تكنولوجيا المعلومات التي أضيفت للقصر وتضم 12 جهاز كمبيوتر. وكذلك تم تفقد قاعتي الفنون الشعبية ونادي الأدب إلى جانب قاعة نادي المرأة، والخيمة البدوية، ومعرض الحرف البيئية، والمسرح الشتوي المجهز كقاعة للعرض السينمائي وتصل سعته إلى 580 مقعدًا.
وقد أثنى المحافظ على الجهد الذى تبذله الهيئة لنشر الثقافة في ربوع مصر من أقصاها إلى أقصاها دون أن تغفل المناطق الحدودية والمناطق النائية التي تتعطش للتواصل مع الفنون والثقافة المصرية، وأشار المحافظ إلى ضرورة الاهتمام بتطوير خطط العمل لتقديم الثقافة والفنون إلى جانب الاهتمام بتطوير المواقع، مشيرًا إلى ضرورة الالتفات لتشكيل لجان نوعية يمكنها النهوض بآليات العمل الثقافي والفني الذي يعد مددًا لتشكيل الوعي ودعم الانتماء والارتباط بالوطن.
ومن المناسبات التي ترتبط في ذاكرتي بمطروح هذا المهرجان والمؤتمر الشعري الذي كرَّم فيه مبدعو مطروح الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي.
ومن المؤكد أن مؤتمر أدباء مصر الذي سيعقد بعد أيام في مرسى مطروح - بجلساته ومناقشاته وتوصياته - سيشكل إضافة تحفظها ذاكرة هذه البقعة الخلابة من بقاع الكون.