معطيات مهمة وواقع فلسطيني معقد

أخطر ما في التصعيد الإقليمي في المواجهة بين إسرائيل واعدائها انه يأخذ الاهتمام بعيدا عن القضية الفلسطينية.

تمر القضية الفلسطينية بلحظات عصيبة لم تشهدها على مدار عقود، ويشهد الشعب الفلسطيني أيام قاسية قد تكون الأشد قسوة وانتهاكاً لإنسانيّته منذ العام 1948. لم يكن التفاؤل ما حمله الفلسطينيون لمستقبل قضيتهم بعد توقيع اتفاق أوسلو، في ظل سياسة حكومات الاحتلال المختلفة معهم، وطالما كان السيناريو الأسوأ حاضراً في أذهانهم، في ظل احتلال ينفي حقوقهم، ويعمل على تقويض فرص مستقبل تحقيق حريتهم، لكن السيناريو الأسوأ بات اليوم واقعاً حاضراً صريحاً، الأمر الذي يترتب معه ضرورة تحديد السياسة وترتيب الخيارات الفلسطينية، في إطار معطيات باتت واضحة جلية.

قد يكون من المفيد مراجعة وثيقة إسرائيلية وضعت قبل أشهر، من قبل مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، من تخصصات عسكرية وسياسية وقانونية واجتماعية، حول الحرب على غزة، تعكس مستوى وحدود التفكير الإسرائيلي لمجتمع متكامل، والذي لم يخرج عن ذلك الذي توصلنا اليه عبر تجربة سنوات طويل من الاحتلال، خصوصاً وأن تلك التجربة الطويلة من الاحتلال وتبعاته لم تغير المنظور الإسرائيلي العام تجاه الفلسطينيين. جاءت الوثيقة بعنوان "من نظام إجرامي إلى مجتمع معتدل: تحويل وترميم غزة بعد حماس". وتمحور السؤال الرئيس لهذه الوثيقة حول آلية تحويل المجتمع الغزي ليصبح مقبولا للعيش بجوار إسرائيل، ووضعت الوثيقة فرضية قائمة على هزيمة حركة حماس. وشددت الوثيقة على ضرورة حدوث تلك الهزيمة كاستنتاج ضروري للورقة أيضاً، معتبرة أن تلك الهزيمة لا تتعلق بحركة حماس فقط، بل بالشعب الفلسطيني كله، فاعتبرت الوثيقة أنه من الضروري أن يشعر الفلسطينيون أن مقاربتهم وطريقتهم في العيش في ظل الاحتلال قد فشلت. وعليه وضعت الوثيقة آليات لترميم المجتمع الغزي، وهي ذات الآليات المكررة والتي طالما طرحتها دولة الاحتلال وعملت على تنفيذها، والتي تتعلق بفرض ثقافة لتدجين وإخضاع الفلسطينيين، عبر المناهج التعليمية والدينية وفرض طريقة حياة، طالما اتبعها الاحتلال وعمل على تطبيقها على الفلسطينيين في غزة والضفة بما فيها القدس، بعد احتلال أراضيهم في العام 1967، وبعد توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993. لم تطرح بالطبع الوثيقة قضية الاحتلال، واكتفت بالتركيز على المفهوم السائد للحكم الذاتي، الذي رسخته أوسلو، والذي يضمن تجنيب سلطات الاحتلال تبعاته القانونية والاقتصادية والسياسية. 

ولعله من المفيد، في إطار مراجعة المعطيات القائمة حالياً، المرور على الواقع السياسي الإسرائيلي، فطالما رأى مفكرونا الأوائل أن إسرائيل تحمل من داخلها بذور فنائها. ولا تزال حرب الابادة التي يشنها كيان الاحتلال على غزة مستمرة، تحت قيادة نتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف. ويواصل نتانياهو بث تصريحاته التي تؤكد على مواصلة لحرب الابادة لحين هزيمة حركة حماس في غزة، حتى في ظل الوصول لصفقة تبادل، حيث لم يخف رغبته بالعودة للحرب. ورغم تأكيده على عدم رغبته بخوض حرب مع حزب الله في لبنان، الذي أعلن عن التصعيد على الجبهة الجنوبية نصرة للفلسطينيين في غزة، ومؤكدا أن التصعيد لن يتوقف حتى تتوقف حرب الابادة ضد الفلسطينيين، إلا أن الاستفزاز الإسرائيلي متواصل لحزب الله، وتطوير دائرة الصراع حاضرة، وخلخلة معادلة الردع في تدهور متصاعد، الأمر الذي يشكك بمصداقية إعلان نتنياهو عن عدم رغبته بالذهاب لحرب مع لبنان. ان ما يرجح ذلك التوجه لنتنياهو هو أزمته الداخلية، والتي تهدد استمرار بقائه في الحكم، الأمر الذي يجعله يواجه خطر اعتقاله بتهم متعددة على رأسها الإحتيال. ان ذلك يفسر تمسك نتنياهو بائتلافه الحاكم، ويفسر سياساته الحالية والمتوقعة، اذ يعتمد نتنياهو على قطبي إئتلافه اليميني الديني والمتطرف. يسعى الائتلاف الحاكم اليوم لاقرار قانون منع تجنيد المتدنيين في الكنيست، رغم أنف القضاء، فقد رفضت المحكمة العليا في العام 2018 ذلك التشريع، على أساس افتقاده للعدالة، وكان ذلك سبباً في سقوط حكومته في ذلك العام. ورسخ نتنياهو ذلك التوجه، والالتزام بالطرح اليميني الديني، منذ صعوده للسلطة في نهاية العام 2022، فطرحت حكومته التعديات القضائية منذ ذلك الوقت، في تحدي للمعارضة، وهو ما تسبب في احتجاجات متجددة أسبوعيا بعد ذلك، لم تتوقف إلا بعد الحرب على غزة. ومن المفارقات أن هذه الحكومة وفي ظل الحرب المستعرة في غزة والمتوقعة مع لبنان تطرح تعديل على قانون التجنيد لزيادة فترة الخدمة العسكرية لجنود الاحتياط، في ظل طرح المؤسسة العسكرية لضرورة زيادة أعداد الجنود، في تجاهل تام لازمة داخلية، ومعارضة متصاعدة خطيرة، ترفض منع تجنيد المتدينين، وزيادة النفوذ الديني في السياسة وعلى المجتمع.

على الصعيد الآخر، ومن منطلق التزام نتنياهو في الائتلاف مع القطب اليميني المتطرف، الذي يدعم استمرار حرب الابادة في غزة، وامتدادها للبنان، والتصادم مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، وترسيخ سياسة الضم، وتصادم ذلك مع الاحتجاجات التي تتصاعد طردياً، من قبل أهالي المحتجزين في غزة، والجنود المحاربين فيها، والمطالبين بعقد صفقة تبادل وباستقالة نتنياهو، يبدو أن نتنياهو مستمر في سياساته التي تضمن بقائه. لم يتراجع نتنياهو رغم التحذيرات الاسرائيلية المؤسساتية، في ظل التطورات التي يعيشها كيان الاحتلال اليوم، من تدهور الوضع السياسي والدبلوماسي عالمياً، وخطر دخوله في عزلة دولية، وتدهور الوضع الاقتصادي بشكل ملحوظ، وتصاعد الاحتجاجات الشعبية في الشارع الإسرائيلي.

ولعله من المفيد توضيح السياسات التي تبناها مؤخراً أحد اركان حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، ويعتبر سموتريتش وزير المالية، وصاحب الصلاحيات الإضافية في إطار في وزارة الدفاع والتي تتعلق باتخاذ قرارات ذات صلة بالإدارة المدنية، والتي تعكس واقع توجهات حكومة الاحتلال تجاه الفلسطينيين في الضفة. قام سموتريش بنقل مسؤولية المستوطنين في الضفة من الجيش إلى وكالة مدنية، الأمر الذي يجعل تلك المنظومة المدنية تتدخل في شرعنة البؤر الاستيطانية والتخطيط للمستوطنات الجديدة، إذ منحته صلاحيات واسعة للإشراف على التخطيط وإصدار تصاريح البناء. كما تجاوز سموتريش تدقيق المدعي العام المتخصص بالاستيطان لعمل ذلك التنظيم المدني الذي يقوده، وذلك بتعيين مستشار قانوني. يعزز ذلك دور ذلك التنظيم المدني في المراقبة على المستوطنات الجديدة، والتخطيط لبنائها والتسريع في ذلك وشرعنة البؤر الاستيطانية. وشهدت الأشهر الماضية بالفعل انخفاضاً حاداً في تطبيق القانون ضد البؤر الاستيطانية. وبعد ذلك تمرد على الموقف الرسمي المستتر والغامض فيما يتعلق بالوضع القانوني في الضفة، وبذلك بات التوجه الإسرائيلي نحو المواجهة مع الفلسطينيين في الضفة، دون وضع أي اعتبارات سياسية او دبلوماسية خارجية، وهو ما يظهر أيضاً في سلوك تلك المؤسسة العسكرية التي تصعد عسكرياً مع الفلسطينيين بشكل ملحوظ في الضفة الغربية مؤخراً. 

أما فيما يتعلق بالموقف الأميركي، في ظل التطورات الأخيرة، والحديث عن توتر بين نتنياهو والإدارة، واتهام نتنياهو لها بإبطاء عملية ارسال المساعدات العسكرية، قد يكون من المفيد تتبع الاحداث التالية التي تؤكد أن العلاقات الاميركية الاسرائيلية تقف على ذات التوجه الداعم والمساند بقوة. جاء خطاب حسن نصرالله الأخير، والذي شدد على أن حزب الله سيذهب للتصعيد إذا قررت إسرائيل ذلك، في أعقاب زيارة المبعوث الأميركي الخاص إلى لبنان، والذي نقل خلالها رسالة مفادها أنه إذا لم تتوقف الاشتباكات الحدودية قريباً، فان إسرائيل تستعد لشن حرب كبيرة، وأن الولايات المتحدة ستدعمها. وفي رد الولايات المتحدة على هجوم نتنياهو على الادارة الأميركية، أكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض أن الادارة صادقت في الأشهر الأخيرة على سلسة حملات لنقل السلاح لإسرائيل، باستثناء تأخير واحدة فقط، تعلقت بقذائف ذات وزن ثقيل، لتجنب استخدامها في هجوم اسرائيل على رفح، والذي حذرت منه الادارة. وهناك خطاب لنتنياهو سيلقيه أمام الكونغرس في الشهر القادم، كمكافأة سياسية له من الولايات المتحدة، على أدائه المميز على الصعيد الداخلي الإسرائيلي وفي حرب الابادة على غزة وتصعيد ممارسات قوات الاحتلال في الضفة، وتطورات المعارك مع حزب الله. 

وفي الختام، قد يكون المقال الذي كتبه سلام فياض في مجلة فورين أفيرز الأميركية مؤخراً، وطرح خلاله أهمية توحد الفلسطينيين تحت مظلة منظمة التحرير، بعد أن أثبتت مقاربة أوسلو فشلها، تضم القوى الفلسطينية المختلفة بما فيها حركة حماس، لتتولى مسؤولية الوضع الحالي، خصوصاً وكما ترى المقال، أن حركة حماس لن تنتهي بعد الحرب، يتفق مع رؤية العديد من المحللين الذين طرحوا ذلك من قبل، إلا أن أهمية طرحه تتعلق بدور حركة فتح في المبادرة بذلك. وشدد فياض في ذلك المقال على أن حكومة نتنياهو لا تريد التوصل لحل مع الفلسطينيين، وهو ما يتعارض مع تطلعات الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، إلا أن ذلك يثير بالفعل تساؤلا فلسطينيا مهماً حوّل الإجراءات التي يفترض أن يتخذها الفلسطينيين بعد عجز اميركا والغرب عن تحقيق مقارباتهم لحل القضية الفلسطينية والية دفاعهم عن أنفسهم في ظل واقع احتلالي دامٍ. إن تفعيل دور المنظمة، وتحملها للعبء السياسي اليوم، في ظل فشل منظومة أوسلو ومخرجاتها السلطوية، وذلك بضم القوى الفلسطينية الأخرى، التي تعكس نبض الشارع الفلسطيني والشرعية المنشودة، تفرض التوجه بعد مرحلة ترتيب البيت الداخلي، وتحديد الأولويات الوطنية، في ضوء التجارب التاريخية، والمعطيات القائمة، لخلق تحالفات تنسجم مع تلك التوجهات، وتكون قادرة على تقديم العون للفلسطينيين على تحقيقها، فقط اضطرت الظروف الماضية الفلسطينيين للقبول بالضغوط العربية ثم الغربية والوصول لحلول، كانت مجرد إدارة للصراع، أبقت الوضع لصالح إسرائيل، وهو ما يحتاج اليوم لإعادة نظر، في ظل إمكانية تطوير تحالفاتنا بما ينسجم مع تحقيق أهدافنا فقط.