مفترق طرق: العلاقات السورية التركية والعامل الإيراني
هُيئ للكثيرين بأن البيانات الإيجابية التي صدرت عن تركيا وسوريا، لجهة الرغبات بإعادة العلاقات بينهما، بأنها ستكون كفيلة للتأسيس لمشهد يجمع أردوغان والأسد، ويطوي صفحة أربعة عشر عاماً من تعقيدات وتشابكات أثرت ولا تزال في جغرافية الشمال السوري أولاً، وتالياً في سياق العلاقات السورية التركية. فالبيانات وإن كانت بمحتوى إيجابي، إلا أنها لا تُعبد الطريق الوعر الذي يسير عليه الحوار السوري التركي، كما أن الدبلوماسية وهندسة عبارات لائقة، لن تُعالج أزمة بحجم أزمة العلاقات السورية التركية، لاسيما أن معالجة أزمة بهذا العمق والتشابك، ستحتاج فترة طويلة للعمل قبل أن يبدأ حصاد النتائج. حتى وإن تمكن أردوغان من تجاهل وصف الأسد له بـ "الأزعر"، وبادر إلى التعبير عن رغبته بلقاء "السيد الأسد"، إلا أن الرهان على تحقيق تحولات سريعة في سياق العلاقات التركية السورية محفوف بالمخاطر، خاصة عند النظر إلى مصالح القوى الإقليمية في الملف السوري وتحديداً إيران، التي تُعد صاحبة التأثير الأكبر في أي مسار مرتبط بالملف السوري.
ما يحكم عودة العلاقات السورية التركية عوامل عدة تتجاوز التصريحات الإيجابية لرئيسي البلدين. فالحوار على مستوى الرؤساء قد لا يتم قريباً، كما أن اللقاءات بمستواها الدبلوماسي لن تصمد طويلاً، لاسيما أن الطريق الذي تسير عليه مسدوداً جراء التشابكات في الملف السوري عموماً وجغرافية الشمال السوري على وجه الخصوص. نتيجة لذلك فإن الواقعية تقتضي قبل كل شيء تخفيض سقف الرهانات من جميع الأطراف، ولاسيما تركيا التي تُفرط في التفاؤل في تطوير سريع لمستوى اللقاءات مع دمشق، وكذلك الأخيرة الذي ترفع سقف تطلعاتها من الحوار، وأيضاً الوسيط الروسي الذي لا يبدو أنه يمتلك التأثير الكافي على دمشق لإقناعها بتقديم مطالب واقعية يمكن تلبيتها.
بهذا المعنى فإنه في بداية أي مفاوضات، تلجأ أطرافها إلى رفع الشروط والشروط المضادة. مع ذلك، فإن مسارعة أردوغان لتوضيح رغباته بعودة العلاقات مع الأسد، في مقابل توضيحات الأسد أن اللقاء قبل أن يتم ينبغي تحديد أهدافه ومساراته، يُشيران إلى الصعوبات التي تواجه عملية ترميم أرضية الثقة للبناء عليها، والمُضي في مسار إعادة العلاقات. لكن تلك الأرضية اللازمة لبناء علاقات سورية تركية قوية، تُهددها عوامل إيرانية وأميركية كثيرة، الأمر الذي ترجمه أردوغان من خلال تصريحاته حين قال "على الولايات المتحدة وإيران أن تكونا سعيدتين بهذه التطورات الإيجابية وتدعما العملية الرامية إلى إنهاء كل المعاناة في سوريا".
إبان المبادرة العربية تُجاه دمشق، توضحت حقيقة الموقف الإيراني المعقد حيال التوصل إلى حل للأزمة السورية. المبادرة العربية نظرت إليها إيران، على أنها تهديد حقيقي لوجودها العسكري في سوريا، حيث إن إحدى النقاط الرئيسية في المبادرة العربية هي الدعوة للحد من النفوذ الإيراني في سوريا، واتخاذ إجراءات للحد من تأثير الفصائل المدعومة من إيران. وبهذا فإن إيران اعتبرت أن المبادرة العربية تُمثل تهديداً مباشراً لمصالحها الاستراتيجية ومحاولة لعزلها وتقليل نفوذها في المنطقة، وبالتالي لا شك أنه كان لإيران تأثيراً كبيراً في فشل هذه المبادرة التي لم تحقق أي من أهدافها، ونتج عنها أيضاً توترات جديدة بين دمشق والدول العربية، وظهرت بشكل جلي في القمة العربية الأخيرة حيث لم يُسمح للرئيس السوري بشار الأسد بإلقاء كلمة في القمة.
من الواضح أن عودة العلاقات الخليجية العربية مع دمشق، وضعتها إيران في إطار رغبات دمشق بالخروج من العباءة الإيرانية والعودة إلى المحافل الدولية، وذلك بمساعدة الحليف الروسي، كما أن الأخير يلعب حالياً دوراً كبيراً في محاولة عودة العلاقات بين الأسد وأردوغان. في المقابل فإن إيران وربطاً بطبيعة دورها في سوريا، فقد استطاعت جُزئياً عرقلة المبادرة العربية، والضغط على دمشق في العديد من الملفات لاسيما الملف الاقتصادي. ولعل ما كشفته وسائل الإعلام الإيرانية عن بنود اتفاقية التعاون الاقتصادي الاستراتيجي بين طهران ودمشق سابقة ونوع من "الضغوط" على سوريا، كي لا تمضي بعيداً عن نطاق النفوذ الإيراني، إذ يعود للواجهة ملف الديون الإيرانية المستحقة على دمشق بين الحين والآخر، بالضغط لتنفيذ الاتفاقيات والخطط الاستثمارية بين البلدين، كضمان لسداد سوريا ديوناً تبلغ نحو 50 مليار دولار في القطاع المدني، بحسب تقارير إيرانية.
في ذات السياق، فإن مصادر عديدة أكدت إنّ "تلويح" إيران بورقة الديون تزامن مع حمى التصريحات التركية المتعلقة بمسار التقارب بين أنقرة ودمشق، وكذلك اللقاء المحتمل بين الأسد وأردوغان، والجهود الروسية "المبذولة" في هذا الخصوص. كما أشارت المصادر إلى أنّ كشف الطرف الإيراني عن حجم الديون والمدة الزمنية للاتفاقية المحددة بعشرين عاما لسدادها، يعكس بعضاً من ملامح مطالب إيران، بمعنى حصتها في حال تمّ الجلوس إلى طاولة التفاوض متعددة الأطراف، للوصول إلى مخارج للملف السوري.
جُملة ما سبق. على الرغم من أن طهران أبدت سعادتها حيال الحوار السوري التركي، لكن لإيران رؤية تدفعها لعرقلة هذا الحوار، أو على الأقل ضمان أن لا تؤثر عودة العلاقات السورية التركية على مصالحها في سوريا. من هنا لا يمكن إغفال العامل الإيراني المؤثر حيال إعادة العلاقات السورية التركية. وبطبيعة الحال ستستمر اللقاءات السورية التركية بطابعها الأمني، لكن في المقابل فإنه من دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح إيران في سوريا، فأنها ستتحول إلى لاعب مؤثر ومُعطل لمسار التقارب بين أنقرة ودمشق.
واقعاً فإن طهران ليست حليفا عسكريا لدمشق فحسب، بل هي جزء لا يتجزأ من النسيج الأمني والاقتصادي والسياسي وحتى الاجتماعي في سوريا، الأمر الذي يجعل إيران شريكة في منظومة اتخاذ القرار. دمشق ليس لديها الرفاهية للتخلي عن الحليف الإيراني، الذي استثمر كثيراً في الجغرافية السورية، ولا يزال.