مفكر عراقي يرى أن الكلام الإلهي لا يعادي التأويل

رسول محمد رسول يواصل مشروعه الفلسفي الذي يسعى من خلاله لقراءة تجليات الفكرين العربي والغربي.
التأويل سواء كان هبة إلهيّة أم آلية ذهنية إنسية كان متاحاً لدى النخب المثقفة التي أنتجها الإسلام
التأويل للأنبياء كان هبة ونورنة إلهية مخصوصة اختارها الله لهم

يواصل المفكِّر العراقي د.رسول محمد رسول مشروعه الفلسفي الذي يسعى من خلاله لقراءة تجليات الفكرين العربي والغربي، فضلا عن متابعاته للمشهد الثقافي والإبداعي، وقد صدر له أخيرا كتابه "إنسان التأويل.. هبة إلهية ومكنة إنسية" وهو كتاب في تأويل اللاهوت الديني، تمضي فصوله إلى القرن الأول الهجري لاستظهار توازنات ومذاهنات تأويلية ظهرت في وقائع معرفية دينية جربها الإنسان، سواء التأويليات الموحى بها إليه من الله أو التي ألهمه إياها الله أو التي اجتهد الإنسان نفسه بها بمكنته الإنسية ليسير في دروبها ووقائعها ويشارك في خطابها على نحو فاعل.. حول الجديد في الكتاب كان لنا هذا الحوار مع د. رسول.
بداية وحول ذهاب الكتاب إلى القرن الأول الهجري، قال: لا أخفيك بأنني كنت أقرأ واستمع إلى المفكر الإسلامي محمّد أركون الذي قال مرّة "إن القرن الأول الهجري غير مدروس بعد"، وكنتُ أفهم كلاما من هذا القبيل دائماً بأن قضايا ومنجزات أخرى عدّة تعود إلى ذلك القرن وهي غير مسلّط عليها الأضواء. 
كان كلام من هذا النوع يثير حفيظتي وأنا أحد أبناء مدينة الكوفة؛ فقد ولدتُ في أحد أحيائها القريبة من "مسجد الكوفة"، الكوفة التي كانت عاصمة الخلافة الإسلامية قديماً، وكان خط الدراسة الاستشراقية حولها يلاحقني، خط المستشرق لويس ماسينيون (1883 - 1962) في كتابه "خطط الكوفة"، كذلك البحوث والكتابات التي وضعها أستاذنا هشام جعيط من تونس، ومن ذي قبل دراسات عباس العقاد وطه حسين التي أعتز بها كثيراً، كلها كانت تلج إلى وقائع وأحداث جرت في الكوفة، وكانت كلها تلاحقني، فبدأتُ أبحث وأقرأ عن تاريخ مدينتي الكوفة التي توصف بالحمراء لكثرة الدماء التي انفجرت فيها، وكان كل ذلك يقربني من القرن الأول الهجري الذي كان الإسلام فيه مركزاً مشعاً رغم الدم الذي سال حتى ذهبت إلى مسح حالة المثقف فيه، وأصدرتُ كتابي "صورة المثقف في التراث العربي" سنة 2011، والذي أعتز به كثيراً، ونشرته في بغداد بعناية فائقة أبداها صديقي الشاعر د. نوفل أبورغيف عندما كان مديراً عاماً لدار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، وعدت وطبعت الكتاب ثانية في نشرة زاهية الجمال تحت عنوان "المثقفون في القرن الأول الهجري"، وصدر عن مركز سلطان بن زايد سنة 2017. وكان هذان الكتابان تمهيداً لكتابي "إنسان التأويل".

كانت تلاوة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، يسحرني أداؤها، وكنت أبكي وأنا أسمع لتلاوة الشيخ وليد إبراهيم، لا سيما سورة "يوسف"، لذلك كنت قريباً من الكلام الإلهي

من صورة "المثقف" إلى "الإنسان المؤول"، لماذا التأويل في ذلك القرن؟ هنا رأى د.رسول أنه في كتابه "صورة المثقف.." كان الإسلام وبضمنه القرآن الكريم والنبوة المحمّديّة كلاهما كان المركز المولِّد لصورة المثقف، وبالتالي وجدتُ أن التأويل سواء كان هبة إلهيّة أم آلية ذهنية إنسية كان متاحاً لدى النخب المثقفة التي أنتجها الإسلام وظهرت في رحابه، وانتقلت من عموم الثقافة إلى خصائصها أو من العموم فيها إلى الخصوص، ففي البداية افترضت وجود خارطة للتأويل رافقت ظهور الإسلام والنبوة المحمّديّة، وهذا ما لا يتوافق عليه الباحثون الذي يعتقدون بأن الذهنية التأويلية ظهرت في الثقافة العربية الإسلامية إبان القرن الأول الهجري، وهذا ما أتقاطع به معهم بقوة، فأنا أعتقد أن كتاب الله (القرآن) حثَ على التأويل، وأن الكلام الإلهي لا يعادي التأويل عداء الند للند، ولنا في متنه آيات وآيات بينات، وتالياً عندما حثّ الخالق الإنسان على التعقل والفهم والمعاينة الذهنية والإدراك والحدس وكلها تدخل في آليات التأويل، ومن جانب آخر لنا في تجارب العبد الصالح "الخضر" أو التجربة اللدنية، وكذلك تجربة نبي الله "يوسف" عليهما السلام: مؤشراً دالاً على نورنة إلهية هي هبة من الله للإنسان لممارسة التأويل إلى جانب تجربة النبي محمّد صلى الله عليه وسلم التي كانت تأويليته نورنة إلهية وقد أسميتها في كتابي هذا تجارب الهبة الإلهية.
وفيما يتعلق بدلالة تعبير "هبة إلهية ومكنة إنسية" في الشق الثاني من العنوان، فأوضح أن "التأويل للأنبياء كان هبة ونورنة إلهية مخصوصة اختارها الله لهم، لكن التأويل وجدته معززاً عند الإنسان من غير هؤلاء الأنبياء وأولياء الله، بمعنى أن التأويل أيضاً قدرة ذهنية للإنسان، وقد ألهمه وحباه الله بممكنات خاصة به لمن شاء، ما يعني أن إنسان التأويل يمكن أن يكون نبياً، ويمكن كذلك أن يكون مجرّد إنسان غير نبي، وكل نبي هو إنسان؛ ولذلك أسميت تجربة "الخضر" بالتجربة التأويلية الخضريّة، وأسميت تجربة النبي يوسف بالتجربة التأويلية اليوسفيّة، وأسميت تجربة النبي محمّد بالتجربة التأويلية المحمّديّة لتأتي التسميات متتالية؛ التأويلية الخضرية، والتأويلية اليوسفية، والتأويلية المحمّديّة، وفي هذا السياق جاءت تسميات أخرى أفردتُ لكل منها فصلاً كاملا. 
أما غير الأنبياء فهم عاشوا في كنف الرسالة الإسلامية ونهلوا منها رؤيتهم، وما وجدوا في التأويل العاقل ضراً فاستلهموا رسالة الله ونبوّة نبيه، وكان منهم مُلهَماً من ربه وقد حباه الله بقدرة التأويل فكانت مزية له؛ لذا جاء اختياري لعدد من شخصيات القرن الأول الهجري، أولئك الذين لم يعيبوا التأويل، وكان اختياري من صحابة الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم كل من عبدالله بن عباس في "التأويلية العباسيّة"، وعلي بن أبي طالب في "التأويلية العلويّة"، وعلى هامشها "التأويلية الخوارجيّة، ومن ثمَّ تجربة مجاهد بن جبر في "التأويلية المجاهديّة"، وتجربة سبط الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الإمام الحسين بن علي في "التأويلية الحسينيّة"، وتجربة سبط الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً الإمام الباقر محمّد بن علي زين العابدين في "التأويلية الباقريّة". وكل هذه التجارب اتخذت التسمية الشخصية للدلالة على تجربة أشخاصها، وكل شخص هو إنسان فيها، بمعنى أن التجارب لا تغادر قائلها لكي لا تبقى طافية. 

Intellectual dialogue
حديقة التأويل

وأضاف "حصرت اهتمامي في عقود القرن الأول الهجري، لكنني لا أنفي وجود آخرين يُحسبون على حقل التفسير والتأويل في حدود تلك العقود، لكنني لم أجد لهم الباع المميز في حقل التأويل فكانوا طبقة أخرى يعلي من شأنها بعض المؤرخين بينما يُغيب آخرين هم الذين اشتغلت عليهم كما لو كانوا المسكوت عنهم في تأريخ التأويل العربي الإسلامي؛ بل لي بعض السبق عندما اشتغلت على هؤلاء المغيبين في الحقل التأويلي. 
وعن العلاقة بين "فتنة الأسلاف.."، وهو كتاب يتخصّص في التأويل، وهذا الكتاب، أشار د.رسول "كتاب (فتنة الإسلاف..) يتخصّص في الفلسفة الألمانية بينما كتاب "إنسان التأويل" يتخصّص في الثقافة الإسلامية، لكنهما يلتقيان في حديقة التأويل، التأويل الذي يخوضه الإنسان في كلا التجربتين بحسب رؤيته ومنهجه الذي يختاره، هذا الإنسان، لنفسه أو ينخرط فيه بإرادة إلهية مخصوصة كما بينت في كتاب "إنسان التأويل.. هبة إلهية ومُكنة إنسية".
وعلّل د. رسول اعتراض بعض قراء الكتاب على تسميات ظهرت في الكتابك من قبيل "المحمّديّة" و"العلويّة" و"الحسينيّة" و"الباقريّة"، وقال "وأضيف: يعترضون على تسميات أخرى مثل "اليوسفيّة" و"الخضرية"؛ لذلك أقول: لا توجد تسمية تنال من أي اسم ظهر في الكتاب، الاعتراضات الشديدة كانت على تسمية "المحمّديّة"، وهنا أعتقد جازماً بأن هذه التسمية لا تنال من مكانة النبي محمّد (صلى الله عليه وسلم)، لا من اسمه، ولا من موجوديته، لا نبويته ولا الرسالية في موجوديته، كما أنها لا تضيف شيئاً مزعجاً على شخصه الأمين، ولا تجعل من نبوّته مدرسة تحد من مدرسة البُعد الإلهي أو الوحيوي أو تجعله مدرسة من دون إله ولا وحي، وكذلك لا تجعل هذه المدرسة تفوق المدرسة الإلهية لصالح شخصيته بوصفه محمّد بن عبدالله.
أقول لكل هؤلاء: إن المحمّديّة تبقى راسخة في المجال النبوي؛ فمحمّد وبالتالي المحمّديّة كلاهما يمثل النبي محمّد (صلى الله عليه وسلم). 
إن الـتأويل المحمّدي لا يخرج عن المنظومة الإلهية ولا الوحيوية، ولا ينفرد على نحو شخصي فيهما كفرد شخص لكنه يبقى محمّد بن عبدالله النبي الذي يمارس التأويل ويدعو إليه بين أقرانه من الناس هو نفسه، وقديماً قيل: "الأمة المحمّديّة"، أي الأمة التي اتبعت محمّداً وما جاء به من رسالة سماوية، فلا غبار على استخدامي لمصطلح "المحمّديّة".
وكشف د.رسول عن علاقته مع المتن القرآني مؤكدا أنها علاقة قديمة تعود إلى أيامي في الكوفة قبل انتقالي للعيش في بغداد العاصمة، كنت أصغي على نحو جيد للتلاوات القرآنية في مساجد الكوفة، وفي سكني، فقد كان أبي، وكذلك أمي، الراحلين، يحثاني على الاستماع؛ بل الإصغاء، إلى آي الذكر الحكيم فجر كل يوم، وكم كنت أشعر بالسعادة أن أكون في صحبة مع هذا الكلام المقدس وهو يخاطبني بوصفي إنساناً، وكنتُ أشعر أن الكلام الإلهي مفهوم من حيث سطحه وبطنه وكل ما فيه من إشارات وتلميحات، وكنت يومها أسأل والديّ، عمّا غمض فيه حتى فرشت المعاني القرآنية وما يدور في فلكها بساطها في ذهني، كانت تلاوة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، يسحرني أداؤها، وكنت أبكي وأنا أسمع لتلاوة الشيخ وليد إبراهيم، لا سيما سورة "يوسف"، لذلك كنت قريباً من الكلام الإلهي.