مفهوم الشك في نظام الفقه الجنائي الإسلامي

انتصار راب: يوحي تاريخ القانون الجنائي الإسلامي أنه على الفقهاء المسلمين في أي عصر التعامل مع الشك.
تاريخ الشك مثال مهم عن عملية ونمو قاعدة فقهية إسلامية تفاعلت مع قواعد قانونية أخرى وقواعد قانونية اجتماعية
قاعدة الشك انتشرت بسرعة، محققةً مكانةً بارزةً في القانون الإسلامي، وهي مبكرةً جداً في تاريخه

تقدم انتصار راب أستاذة القانون في كلية القانون في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأميركية في كتابها "قاعدة الشك عند الفقهاء المسلمين" تأريخا لمفهوم الشك في نظام الفقه الجنائي الإسلامي، على وجه التحديد، مفهوم يكشف الكثير عن طبيعة القانون الإسلامي نفسه وتعقيداته؛ المعروف أيضاً بالشريعة. ويطرح هذا التأريخ تساؤلات حول المفهوم الشعبي عن الفقه الإسلامي؛ الذي أيده البعض وعززه، وانتقده آخرون وعارضوه. والمفهوم هو أن الفقه الإسلامي تقليد قانوني إلهي لا يتسع لحرية التصرف أو الشك، خاصة في الجانب الجنائي.
رأت راب في كتابها - الذي ترجمه الباحث المغربي د. سعيد منتاق وراجعه د. رضوان السيد وصدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود - أن تاريخ الشك مثال مهم عن عملية ونمو قاعدة فقهية إسلامية، بما أنها تفاعلت مع قواعد قانونية أخرى وقواعد قانونية اجتماعية. 
انتشرت قاعدة الشك في الإسلام بسرعة، محققةً مكانةً بارزةً في القانون الإسلامي، وهي مبكرةً جداً في تاريخه. وخلال عقود من وفاة النبي، أصبحت قاعدة الشك مركزيةً جداً في القانون الجنائي الإسلامي إلى حد أنه، مع نهاية قرن الإسلام الأول، أشار إليها القاضي الرائد في مدرسة الكوفة في القانون، إبراهيم النخعي بأنها بديهية. وقام فقهاء من الأجيال اللاحقة بالشيء نفسه، مع علماء رواد في كل مركز رئيس من مراكز الإمبراطورية الإسلامية النامية، مستحضرين المبدأ بحلول منتصف القرن الثامن. قبل مطلع القرن التاسع، أعلن أحد العلماء أن قاعدة الشك كانت مبدأ من المبادئ القليلة التي اتفق عليها كل الفقهاء المسلمين. 
بعد ذلك، رُسخت القاعدة بشكل جيد إلى حد أنها ظهرت في الأدب الشعبي المشهور مثل "ألف ليلة وليلة". وظهرت أيضاً في سجلات تاريخية مهمة، مثل تلك السجلات التي وضعت شعراً من قبل مؤرخ أندلسي من بلدة في البرتغال اليوم: "قاعدة تجنب العقاب في حالات الشبهة، حديث رواه كل العلماء الثقات حسني السمعة". الحديث هو رواية لكلام أو أفعال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهو مصدر تأسيسي للقانون الإسلامي، في المرتبة الثانية بعد القرآن. إن تصريح الشاعر المؤرخ إذاً معبر: مع القرن الثاني عشر، حيث كتب ذلك المؤرخ، بل وقبل ذلك، بدأ الفقهاء المسلمون يعدون قاعدة الشك نبوية الأصل.

الاهتمام بالقواعد القانونية الإسلامية ظهر من جيوب العلم في العالم الإسلامي - مع اهتمام جديد باستخراج القواعد القانونية في القرون الوسطى لفحص علاقتها بالأسئلة القانونية الحديثة

استكشفت راب مفهوم الشك المنسي تقريباً والمركزي جداً في القانون الجنائي الإسلامي، والطرق التي نشر بها الفقهاء المسلمون قاعدة الشك، وسوغوا استعمالها الواسع في الحقبة الممتدة من القرن السابع إلى القرن السادس عشر في الديار الإسلامية المركزية. وقالت: مطلبي الأساس هو أن الفقهاء المسلمين في القرون الوسطى، الذين ادعوا التزامهم بالنص، نشروا الشك (مع قواعد قانونية أخرى خارج النص) لتشكيل طريقة واقعية في التأويل زادت من سلطة المؤسسة على القانون. لإنجاز هذه المهمة التأويلية، عبروا عن مثل القيم الأخلاقية والعمليات القانونية والسلطة التأويلية التي بوساطتها سعوا إلى تحديد الاستعمال الشرعي للقوة في القانون الجنائي الإسلامي. 
وتساءلت راب: كيف استطاع الفقهاء المسلمون ادعاء التزامهم بالنص ومغادرته في آن واحد؟ لماذا قاموا بذلك؟ وأشارت لبعض الدوافع التي لأجلها نجح الفقهاء المسلمون في تحويل مذاهب الشك إلى قواعد نصية. أولاً، الوسائل: أزعم أنه على مدار ثمانية قرون ومن خلال نقاشات تأويلية عديدة، وضع الفقهاء المسلمون مجموعة من القواعد، وحددوا النصوص وعمموا مذهب الشك الإسلامي المتجذر في الممارسة القانونية المبكرة. بمعنى، حددوا مذهباً للشك طبق في الحالات المبكرة التي - مع التكرار على سبيل الممارسة القانونية - أصبحت قاعدة قانونية في شكلها المعياري المكرر أحياناً كثيرة. حول هؤلاء الفقهاء إذاً ممارسة قانونية لتجنب العقوبات في حالات الشك إلى نص قانوني يتطلب ذلك. لإنجاز وضع نصوص للقاعدة، أكد الفقهاء أن الرسول محمداً (صلى الله عليه وسلم) نفسه صرح بذلك داعياً الفقهاء إلى تجنب العقوبات الجنائية في حالات الشك. وبإعطائها أصلاً نبوياً، حول هؤلاء الفقهاء القاعدة إلى نص قانوني معياري. وبعد تجهيز القاعدة بأس نصي ثقة، عمم هؤلاء الفقهاء أنفسهم فحواها، وحددوا مفهومها الأساس بوضع تشريع للشك متطور وعبر قرون طويلة .
ثانياً، الدوافع. ماذا يشرح هذا التحول الراديكالي لمذهب الشك الإسلامي من الممارسة القانونية إلى نص قانوني ملزم، وتوسعه نحو مبدأ عام أصبح يسيطر بل ويحدد القانون الجنائي والإجراء الإسلاميين؟ الجواب معقد، له علاقة بما يمكن أن نسميه على حد سواء عوامل قرينية خارجية وعوامل نصية داخلية لها علاقة بالتأويل القانوني الإسلامي. وخارجاً عن المشروع التأويلي لفقهاء المسلمين كانت البنية الشاملة للقوة المؤسساتية في تحديد القانون الإسلامي، الذين كانوا في مفاوضات متواصلة حوله مع السلطات الحاكمة. 
هناك نقطتان نقديتان لفهم موضوع تلك المفاوضات. أولاً لم يكن الفقهاء المسلمون في القرون الوسطى، وهكذا تحديدات القانون الإسلامي، مدمجين في الدولة، ولا هم مسيطر عليهم بالشكل الذي تمارس فيه الدول الحديثة الاحتكار على القانون. ثانياً، كان أولئك الفقهاء علماء قانون يتميزون عن طبقة منفصلة من القضاة المعينين من قبل الدولة، ولو أن بعض الفقهاء كانوا يلبسون القبعتين. وهكذا كان هناك تفاعل بين الفقهاء، الذين حددوا القانون، والسلطات الحاكمة، التي تفرضه، والقضاة، الذين كانوا يعتمدون على الفقهاء في تحديد القانون وعلى الحكام في فرض قراراتهم. ونظراً لأن هذا الترتيب للقانون الجنائي حقل في القانون العام يشتمل على كل الأنواع الثلاثة من الفاعلين، يعد الشك عدسة مهمة من خلالها قد نحدد كيف وصل الفاعلون المؤسساتيون تاريخياً إلى الترتيبات المؤسساتية المعروفة في الإسلام الرسمي، والتي حاولت أن توازن العلاقات بين الفقهاء المسلمين والحكام السياسيين. 
ولفتت راب إلى أنه داخل مشروعهم التأويلي كان استعمال الفقهاء المسلمين للتأويل النصي يهدف إلى تحديد القواعد الإسلامية والتعبير عنها، وخلال العملية مفاوضة العلاقات المؤسساتية ومدونة السلوك الأخلاقي. ينطبق هذا الإطار على الفقهاء السنة والشيعة على حد سواء. أنجز الفقهاء المسلمون هذه المهمة بالتركيز على عوامل ثلاثة رئيسة، قدمت كلها على أنها محاولات لخدمة المشروع الإلهي بإخلاص: القيم الأخلاقية التي اختار الفقهاء إعطاءها الأولوية في ضوء السياقات الاجتماعية السياسية المتغيرة التي تحيط بالقانون الجنائي والشك، والعمليات القانونية التي صممها الفقهاء المسلمون في مدارس تأويلية عديدة لتحديد "تشريع للشك" ومعنى للنزعة النصية ونظريات الفقهاء، المعتمدة على اللاهوت، في نطاق سلطتهم التأويلية الخاصة.
وأضافت "يبرهن مسار الشك أنه ولا طالب تاريخ القانون الإسلامي يجب أن ينخدع مع الظهور اللاحق نسبياً لأطروحات عن القواعد القانونية بالتفكير أن تلك القواعد لم تبتكر أو تنشر حتى القرن الرابع عشر. كانت قاعدة الشك هناك منذ بداية القانون الإسلامي، مع أول المصادر التي دونت انتشارها، وكانت قد وضعت معياراً للقانون الإسلامي العام في القرن السابع أو بداية القرن الثامن. تم تحديد قاعدة الشك آنذاك نصاً وعممت في القرن الحادي عشر، عندما نضجت المدارس الرئيسية للقانون الإسلامي، وتفككت الإمبراطورية، وشهد العالم الإسلامي تحولاً من الممارسة القضائية إلى النص القانوني باعتباره أساً موثوقاً به للتأويلات الشرعية في القانون الإسلامي. واستمر شكل ووظيفة قاعدة الشك - وإلى جانبها، السلطة التأويلية للفقهاء المسلمين بين السنة والشيعة - في كونها مسألة نقاش بعدئذ، عندما نما استعمال القواعد القانونية والأدب الذي سجلها من القرن الحادي عشر إلى القرن السادس عشر، حيث ينتهي التركيز الأساس لهذا الكتاب". 

قاعدة الشك
قاعدة الشك نبوية الأصل

وأشارت راب إلى أنه بعد القرن السادس عشر، استمر أدب القواعد القانونية في النمو بهدوء كبير في الأراضي السنية العثمانية والأراضي المغولية، وكذلك في العالم الشيعي، إلى حدود القرن الثامن عشر. تتضمن الأجزاء عن القانون الجنائي في هذه المجموعات من القواعد القانونية صياغة جديدة للتعريفات الأولى لشريعة الشك بطرق بدت أحياناً كثيرة أنها تخدم الأهداف البيداغوجية للتربية القانونية والأهداف التداولية للأحكام القضائية؛ مع أنه يُتطلب مزيد من العمل للتفصيل في الدور الدقيق للشك في تلك الميادين .
 وأكدت أن تاريخ الشك يوفر خلفية لتقويم الانحطاط الحاد للقواعد القانونية في العالم الحديث، خاصة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية - مع تقديم تسعة وتسعين قاعدة في القانون التجاري العثماني للعام (1869)، محدداً واحداً من أيام القمة في القواعد القانونية للحقبة الكلاسيكية في القانون الإسلامي. تعرضت القواعد القانونية عموماً إلى الهجر في العالم الإسلامي بعد فترة من الاستعمار الأوروبي والتدوين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عندما أتت بنيات حاكمة بتغييرات عنيفة في التربية القانونية والسلطة الفقهية على القانون في العالم الإسلامي. صممت القوانين الحديثة لتهميش الفقهاء، كما كان الأمر بشأن فك النظام التربوي التقليدي لصالح أنماط غربية. 
صاحب تدوين القوانين المدنية والجنائية أنماط حكومة مستوحاة من الغرب في الشرق الأوسط: تشريعات جديدة، محاكم تابعة للدولة وسلط تنفيذية أقوى. في الواقع سمح هذا التحول من التقليد التأويلي الحيوي في القانون الجنائي في القرون الوسطى إلى قوانين بأسلوب أوروبي ومحاكم في سياقات حديثة بقضاة جدد تعينهم الدولة للاستغناء عن القواعد القانونية الإسلامية، وتبني مقاربات للقانون نصية وأكثر صرامة. كذلك، من المحتمل أن هؤلاء القضاة اعتمدوا على مجاميع الحديث ونصوص أخرى لم تتضمن بالضرورة القواعد القانونية مثل قاعدة الشك، التي تم تحديدها نصاً فقط نحو نهاية الحقبة التأسيسية الإسلامية، ومن ثم لم تظهر في أجزاء النصين التأسيسيين الإسلاميين. 
ورأت راب أنه كان للتأثير الأجنبي المتواصل الأثر غير المقصود في إحداث حنين إلى العصر الذهبي المتصور عندما كان المسلمون، في سيطرتهم على شؤونهم، قادرين على تنفيذ نظام القانون الجنائي الذي تميز ظاهرياً بتطبيق واسع لعقوبات الإسلام الجنائية. وجاء استحضار مثل هذه المفاهيم غير التاريخية عن هذا العصر الذهبي المتصور بشرعية رمزية لفاعلين سعوا إلى إرجاع قاعدة القانون الإسلامي بتطبيق القانون الجنائي الإسلامي من خلال جهاز الدولة الحديثة أو بصفتهم فاعلين غير حكوميين، تباعاً. ولكن هؤلاء الإسلاميين ليسوا علماء قانون، ولا هم مؤرخين. كانوا يميلون إلى عدم اضطلاعهم بالقانون الإسلامي خارج النصوص الأساسية، التي تتضمن عادة صياغات واحدة للمادة، ولكن ليس الإجراء الموسع للقانون الجنائي الإسلامي، كما تطور من خلال قاعدة الشك. 
باختصار، أظهر أشد المناصرين للقانون الجنائي الإسلامي قليلاً من الفهم إلى جهل الملامح التاريخية، وطبعاً جهل بتعريفات سياق الشك ووظائفه واستعمالاته. ربما لهذا السبب، في القرنين العشرين والواحد والعشرين، أن الاهتمام بالقواعد القانونية الإسلامية ظهر من جيوب العلم في العالم الإسلامي - مع اهتمام جديد باستخراج القواعد القانونية في القرون الوسطى لفحص علاقتها بالأسئلة القانونية الحديثة. 
وكما اقترح أحد العلماء منذ ثلاثة عقود تقريباً، ربما كان اعتبار القانون الإسلامي دون القواعد القانونية يغلق سبل فهم طبيعة القانون الإسلام، والتأويل القانوني تاريخياً في العالم المعاصر على حد سواء. 
وختمت راب بالقول "لا مجال للمخادعة: يوحي تاريخ القانون الجنائي الإسلامي أنه على الفقهاء المسلمين في أي عصر التعامل مع الشك".