مفهوم المثقف وإبداعات الثورة

مفهوم المثقف ظل مفهوماً إشكالياً ومتقلباً حيث يتحدد وفق زاوية النظر إليه والحقل المعرفي الذي ينطلق البحث منه.
المثقف يحاول النظر المتعمق لاكتشاف هويته الثقافية ومن ثَمَّ إظهارها للآخرين والترويج لها
هل سيحمل المستقبل استثماراً حقيقياً وليس سطحياً لظاهرة الثورات العربية على مستوى الكتابة؟

مفهوم المثقف

ظل مفهوم المثقف مفهوماً إشكالياً ومتقلباً حيث يتحدد وفق زاوية النظر إليه والحقل المعرفي الذي ينطلق البحث منه، وكذلك عبر الزمن والحقبة المعرفية التي تزدهر وقت وضعه في دائرة الضوء، وهكذا تفاوتت التعريفات وتباينت بين المفكر أو الأديب أو الأكاديمي أو المهموم بالفعل الثقافي بشكل واسع وكذلك كل من اكتسب مهارات معينة تساعده على التكيف مع محيطه والتأثير في الآخرين من حوله بشكل غير محدد ومنفتح ومرن، أو ذلك الذي يبذل جهدًا فكريًّا لفهم الذات والآخر والأحوال ينتج عنه تحليلات تخلف طرقاً ومناهج تقرأ الظواهر وتفككها وتقترح مسارات للتعاطي الخ الخ. 
كان ذلك المثقف يحاول النظر المتعمق لاكتشاف هويته الثقافية ومن ثَمَّ إظهارها للآخرين والترويج لها متلبساً دور البوصلة والضمير والحافظ للقيم منطلقاً من نظرة تميل إلى الحِكَمية ربما، لكن الأمور ظلت تختلف يوماً عن يوم من المفهوم العضوي المشتبك الذي تراه في أول الصفوف بالقول والفعل إلى ذلك الذي يشبه الكثيرين ويمتح من مصادر تشبه مصادرهم، وهي التي أتاحتها ثورة الاتصالات ومجتمع المعرفة وقيم التجاور التي ترسخها ما بعد الحداثة، لا ميزة ضخمة ولا فارقة يملكها أحد عن الآخر ولو كان باحثاً أو مفكراً لكن حتى وإن خفتت نبوية المثقف وبريقه ونزل من برجه العاجي يظل إنساناً مميزاً ومهموماً بالآخرين ولا يخايله إلا سؤال المستقبل.
إبداعات الثورة
 منذ طفولتنا ونحن نُحْقَن بحب المناسبات باعتبارها مُنطلَق الإبداع وحاضنته ومفرخته وذلك لأننا أولاد أنظمة ذات غرض تهدف دائماً وأبداً لأن يتسطَّح الوعي ويتجمَّد، وكلما كبرنا كنا نلمس كيف أن النتاج الفني المرتبط بالمناسبة أو الحدث هو الأضعف فنياً لكونه بالضرورة مباشرا ومتاحا ومجانيا، ويسقط بالتالي سريعاً من الذاكرة الإبداعية. 
ثم مر الزمان ووقعت علينا كل أشواقنا القديمة والمتراكمة للحرية وتفاعلنا مع التغيرات السياسية الملتهبة والعنيفة في منطقتنا العربية تفاعل الظمآن المهووس، فانقسم المبدعون إلى فئتين فئة كان قلبها يومئ للسماء فيستقبل الإشارات والشارات الملونة ثم يتنهد ويصرخ ويكتب رغم أنها قد تكون مدركة لفكرة أن الحدث الذي يفقدها صوابها أكبر بمراحل من أي محاولة لتأطيره ونقله من سياقه التاريخي والزمني إلى سياق مجازي وتعبيري، لكن لم يكن هناك مجال للتدقيق والمراجعة وإعلاء سؤال الفن، كأن هذه الفئة كانت تكتب تحت ضغط إحساسٍ بالمسئولية الذاتية النابعة من إيمانها (المُتْحَفي) بدور الفنان والأديب والمثقف وموقعه البراق وسط النجوم، أو تحت وطأة اللهاث الساخن والتزاحم لحجز مكانٍ وسط قوس النصر.
أما الفئة الثانية فحاولت أن تُنَحِّي مشاعرها لصالح القراءة ومحاولة التحليل، كانت تدرك أن الاندماج في الحدث سيملأ الروح بمشاعر حتى وان كانت مختلطة إلا أنها ستسمح بعد ذلك لقطرات الروح أو الكتابة الإبداعية، أن تسقط على مَهَل. 

fine arts
مر الزمان ووقعت علينا كل أشواقنا القديمة 

والآن وبعد اكتشافنا أن ثورات الربيع العربي ليست ببساطة ولا واحدية التوجهات المتفائلة التي ترى أن التغيير له ضريبة مقبولة ولو كانت الفوضى أو حتى المتشائمة التي تنعتها بالمؤامرة الكونية التي لا تهدف إلا إخراجنا من المشهد الإنساني، وإدراكنا أن هذه الثورات هي بحق أقسى الأسئلة الكبرى والمعقدة التي مرت بنا وجعلتنا غير ما كنا عليه على الأصعدة كافة، وبالأحرى ثبَّتت الارتباك والحيرة فينا إلى أمدٍ غير منظور: سنلمس عند مقاربة النتاج الفني الواقع من عربة الثورات العربية، أنه لا مفر من إعادة التقسيم مرة أخرى إلى قسمين: الأول هو مَنْ أنتج واضعاً نصب عينيه أن يكون بحجم الحدث الكبير، فأخرج دواوين وروايات وكتباً تحكي وتحلم وتتخيل وتصل ليوتوبيا وهمية متعالية وغير زمنية، متسلحةً بكل متطلبات الحدث من زعيق أو فجاجة وهي مؤلَّفات لا مكان ولا محل لها اليوم ربما في المكتبات الشخصية لمَنْ كتبوها! 
والقسم الثاني هو ذلك الذي انتظر حتى غطته التفاصيل والرؤى فأنتج فناً – سرداً في الغالب – يتأمل ويفكك ويلجأ للإنساني الخالد (للداخل) الذي تنحى عن إبداع القسم الأول لصالح الضجيج والمظاهر الخادعة: (الخارج) المخاتل على الدوام. 
لا فكاك من الاعتراف بالضعف الغالب على تجربة الكتابة في الثورات ومعها وعنها وفقر إضافاتها الفنية والوعيية وحتى على مستوى التماهي مع فكرة الثورة في حد ذاتها للوصول لمنطلقات ورؤى أكثر انفتاحاً، وبالأحرى تقديم اقتراحات جمالية جديدة تسمح بإعادة النظر في المستقرات واليقينيات/ وهو ما لم يتم مطلقاً. 
إن الضعف ليتبدى كذلك في سوء تمثل تلك الكتابات لفكرة الحرية سواء كغاية يجب السعي للوصول إليها أو حتى كمنطلق وأساس يجب تثبيته وإزالة الغبار عن كونه هو ماء الكتابة ومادتها الخام. لكن هل سيحمل المستقبل استثماراً حقيقياً وليس سطحياً لظاهرة الثورات العربية على مستوى الكتابة؟ بالطبع سيحدث وذلك عندما ينتقل الحدث إلى وضعية الفكرة والتاريخ وبالتالي تقفز الكتابة من مرحلة القنص إلى مرحلة النظر وإعادة النظر والتفكيك وإعادة التركيب لاكتشاف الاحتمالات واقتراحها. عندما تزيد الهوة الزمنية ويخف الإشعاع المتفلت من نوافذ الحدث لصالح الفكرة والفلسفة: سيتدخل الوعي الإنساني المتجرد من كل حمولات العاطفة والارتباك وسطوة تأرجح الأفكار وعدم وضوح الحقائق وينطلق نحو تمثل الدروس والروائح والأصوات والتفاصيل والإنسانيات وكلما يصل إلى التجريد وتقشير الزوائد والرطانات والأهداف السياسية سيحيا الفن وسؤاله.