مقاهي القاهرة الثقافية تحاول استرجاع ماضيها العريق

تتباين مستويات الحضور في المقاهي الثقافية في القاهرة وسط محاولات بعضها استرجاع ماض عريق، فيما يكتفي بعضها الآخر بما بالعيش على ذكرى الماضي، ويردد ما حفل به من مناسبات وما مر عليه من اسماء لافتة في عالم الفن والثقافة والفكر والادب قبل ان يأفل نجمه.
ويعتبر "كافيه ريش" الواقع قرب ميدان طلعت حرب في وسط القاهرة من اعرق المقاهي الثقافية في العاصمة المصرية، ويقول صاحبه مجدي عبد الملك ميخائيل انه يبذل اقصى جهده لاعادة المكان الى امجاده الغابرة.
وتابع ان مفهوم المقهى مستوحى من فرنسا اساسا الا انه خضع لعملية تطوير مستمرة على مدى العصور وبالتالي تحول المقهى الى مكان لقاء اجتماعي الطابع حيث تكون وسائل الترفيه ثقافية.
ومن جهة اخرى ترى الباحثة رانيا احمد التي كتبت اطروحتها الجامعية عن المقهى ان "حياة المثقف المصري ترتبط عضويا بالمقهى بحيث يعتبره بعضهم بمثابة عنوان آخر لهم".
وكانت بدايات المقهى عام 1908 عندما افتتحه رجل الماني اسمه برنارد ستاتبرغ ما لبث ان باعه الى الفرنسي هنري ريسجييه عام 1914 الذي اطلق عليه اسم "ريش".
وابان الحرب العالمية الاولى باع الفرنسي المقهى لليوناني-المصري ميخائيل بيلتيس، الذي عرف عنه شغفه بالفنون والآداب على مختلف انواعها،والذي قام باجراء المزيد من عمليات التوسع باتجاه شارع سليمان باشا المجاور ليتحول قسم من المقهى الى مسرح غنائي.
وبات المسرح راسخا في العشرينات مع حصوله على ترخيص بالغناء من الحكومة حيث كانت احدى الفرق تعزف فيه بشكل دائم بحضور مترددين على المقهى من طبقة الارستقراطيين المصريين والاجانب على حد سواء.
ومن ابرز الفنانين الذين مروا على مسرح كافيه ريش كوكب الشرق ام كلثوم عام 1923، وكان ثمن بطاقة حفلتها 15 قرشا وذلك بعد ان سبقها استاذها الشيخ ابو العلا والفنان انيس زكي مراد والد المطربة ليلى مراد.
وشكلت تلك الاعوام بداية العصر الذهبي الذي استمر حتى سبعينات القرن الماضي.
وقال ميخائيل ان والده اشترى المقهى عام 1960 عندما كانت هناك موائد مخصصة للاذاعيين واخرى للمخرجين وغيرها للمفكرين والصحافيين والادباء، ولكل فئة ركنها الخاص.
وشدد صاحب ريش على "الطابع التنويري لرواد المقهى الذين كانت غالبيتهم من خريجي الجامعات الفرنسية والذين جلبوا معهم ما عايشوه هناك من افكار وتطلعات ومنظومة قيم مؤمنين بان الفرنكوفونية هي من اقرب الثقافات الى العربية".
وفي الواقع من الصعب ان نجد اسما في عالم الفكر والفن والادب وحتى السياسة لم يتردد على "ريش" خصوصا ابان حقبة الخمسينات والستينات. وغلب حضور الجماعات اليسارية على الليبراليين في نهاية السبعينات.
وبدأت مرحلة "التدهور في مستوى الرواد ونوعية الزبائن خلال الثمانينات عندما بلغت الامور حد تبادل الشتائم والضرب بالكراسي" فما كان من صاحبها سوى اغلاقها لفترة امتدت عشرة اعوام (شباط/فبراير 1990 حتى اذار/مارس 2000).
وقال عبد الملك ان الذين "هربوا من المكان سابقا بسبب تدهور نوعية الرواد بدأوا حاليا بعد اعادة افتتاحه بالعودة الى رحابه" مشيرا الى عدم اكتراثه بالربح المادي حسب قوله لان "جل ما يهمني هو استعادة السمعة والاجواء السابقة التي اشتهر بها المكان".
واوضح ان مخرجين سينمائيين بارزين واساتذة جامعات يعقدون حاليا ندوات وحلقات دراسية اسبوعيا في المقهى لا يكاد يجني منها شيئا، لكنه اعرب عن ارتياحه ازاء مستوى الحضور الثقافي الذي "يشكل غنى لا مثيل له".
واذا انتقلنا من وسط القاهرة الى احيائها الشعبية العريقة لابد وان يقفز للذهن مقهى الفيشاوي الواقع في خان الخليلي، والذي تم تأسيسه قبل 240 عاما تقريبا كما يقول احمد الفيشاوي (46 عاما) مديره الحالي. ويوضح ان المكان استمد شهرته بسبب وقوعه في منطقة خان الخليلي والحسين التي كانت من اكبر المراكز التجارية في القرنين المنصرمين.
ويضيف ان 90% من تجار المنطقة وعلماء مشيخة الازهر القريبة كانوا يلتقون في المقهى بعد صلاة الجمعة. ولكن بمرور الوقت بدأ فنانون وادباء في التردد على المكان وخصوصا في خمسينيات القرن العشرين ابرزهم الاديب نجيب محفوظ ومجموعة "الحرافيش".
واوضح ان المقهى كان عبارة عن مجموعة من حجرات تطل جميعها على البهو الداخلي وكان كل فنان او مفكر يختار واحدة منها للقاء الاصدقاء والمعجبين.
واكد ان الملك فاروق آخر ملوك مصر (1937-1952) كان، خلال الحفلات التي اقامها، يطلب من الفيشاوي تقديم التبغ والشاي الاخضر اللذين كانا سبب شهرته.
وتابع ان عددا من الباشوات كانوا يلتقون فيه كل يوم خميس من مطلع القرن الماضي حتى ثورة تموز/يوليو 1952 وخصوصا مصطفى باشا النحاس رئيس الوزراء الاسبق.
لكن المقهى تحول في العقود الاخيرة الى معلم سياحي اذ يتوافد عليه العديد من السياح وخصوصا الفرنسيين.
وبخلاف مقهى الفيشاوي يلتقي عدد من الفنانين والمثقفين في مقهى "الغرييون" الواقع في الشارع الموازي مساء يومي الاحد والثلاثاء تقريبا لتبادل وجهات النظر حول مختلف القضايا المطروحة.
وقال احد المراقبين ان المقهى "يحاول ان يكون مكانا للمعارضين كما كان" دور "ريش" في الحقبة السابقة دون ان "يعني ذلك ان الاخير تحول الى صفوف الموالاة".
واضاف ان التغييرات التي طرأت ضمن فترة زمنية معينة كانت انعكاسا للواقع الادبي والثقافي والفكري وسط تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية شهدتها القاهرة في العقود الثلاثة الاخيرة.