"مقبرة المياه" رواية ليبية عن الجريمة في ظلال الحرب

عنوان رواية محمد عبدالمطلب الهوني يجمع بين ما يبدوان للوهلة الأولى على أنهما نقيضان.

من المألوف أن المقبرة على أرض معلومة لا متخيلة تحت المياه

لطالما شكلت قضية الهروب من الحرب مادة للكتاب والروائيين يستلهمونها في أعمالهم. خلال العقد الأخير دفعت الوقائع الدامية الكتابة الروائية العربية إلى التقاط ملامح التحول الاجتماعي في ظلال الانتفاضات والحروب. في هذا السياق يمكن إدراج رواية “مقبرة المياه” للكاتب الليبي محمد عبدالمطلب الهوني الذي يصوّر فيها جراح المهاجرين النازفة ومآسيهم المتعاظمة في رحلة بحثهم عن الملاذ الأخير، تلك الرحلة التي تتحوّل إلى محطة أخيرة لكثيرين منهم هربوا من الحروب والإجرام والفقر والجوع ليقعوا في براثن اللصوص والمجرمين الذين يعاملونهم باستخفاف وتحقير وكأنّهم أشياء لا قيمة لها، أو أرقام لمراكمة الأموال ونهبها منهم، من دون إيلائهم أيّ اعتبار يُذكر.

يجمع الليبي محمد الهوني في عنوان روايته “مقبرة المياه” بين ما يبدوان للوهلة الأولى على أنهما نقيضان، ذلك أنّ المياه التي تكون متحركة، مائجة، غير ثابتة، متخبطة، مضطربة، تناقض السكون والثبات اللذين يسمان المقابر عادة.. ومن المألوف أن تكون المقبرة على أرض معلومة، لا في أرض متخيلة تحت المياه.

يرمز العنوان في جانب منه إلى أولئك المهاجرين الذين يلقون حتفهم في مياه المتوسط أثناء رحلة الموت التي يخوضونها في قوارب الهلاك والمأساة، بحثاً عن الهجرة إلى الشمال الذي يتبدى في المخيلة كفردوس منشود، ويلفت إلى أنّ البحر الذي يفترض أن يكون جسراً للعبور يغدو مقبرة تفتح فاهها لالتهام المزيد من الضحايا كلّ مرة؛ مقبرة لا ترتوي أبداً، وتستزيد بشكلّ دائم، كأنّها صدى للجشع الذي يصم أولئك المهرّبين الذين يستخفّون بحياة البشر الذين يبحرون بهم في عتمات البحر من دون أي رأفة أو رحمة أو تقدير.

بؤرة سورية

يستهلّ بالحديث عن زكريا السوري الذي يقيم في جزيرة إيطالية، ويكون قد وصل إليها بعد رحلة شاقة تكون محنة قاسية لا تفارق كيانه، وتقيد حياته بجنونها وخسارتها المفجعة له، وفقدانه أعزّ الناس إليه في المياه الملعونة، وشعوره الكبير بالفراغ، وعدم القدرة على نسيان ما حصل، حيث الذاكرة تجثم بمراراتها التي لا تنسى على صدره ومخيّلته، ولا تفسح له أيّ مجال لاستكمال حياته المفترضة في ملجئه الذي تغوّل وبات معبراً للماضي لا إلى المستقبل كما قد يتخيّل المرء في مثل حالته.

يلفت إلى الصداقة الناشئة بين زكريا وجودي، وهو كلب في البيت الإيطالي الذي يرعاه، يجد في تلك الصداقة راحة وبعض القيمة المفقودة، القيمة التي لم يشعر بها مع البشر الذين تحوّلوا إلى وحوش فتكوا به وبأهله، سواء في أرض الحرب والخراب أو في بحر النهب واللصوصية والموت.

يصوّر الروائيّ كيف أنّ زكريا يشعر بصحبة جودي بشيء من البهجة المسترقة من بين براثن الزمن العدواني تجاهه، البهجة التي تشعره بأنّه ما يزال إنساناً، ويكون البوح والاعتراف من أدواته وسبله للتخفّف من أعباء الماضي القاهرة التي تظلّ جاثمة بدورها على صدره، وتخنقه بطريقة يومية.

ما يعيشه بطل الرواية الذي يتعرّض للخيبات والانكسارات يعكس مرارة الوقائع التي يمرّ بها عدد من أبناء المناطق التي تعيش رعب الحرب والدمار والفقر والتخبط والجنون، بحيث يكون صورة مرآوية لعوالم تبدو هاربة من لعنات تطارد أبناءها إلى أخرى لا تحمل لهم أيّ شفاء من آثارها الوحشية، سواء كانت آثاراً نفسية أو جسدية، وتبقيهم مسكونين بها مكبّلين بقيودها، غير قادرين على تجاوزها بأيّ شكل من الأشكال.

يغوص الروائيّ في عدد من القضايا والجغرافيات، يشبكها وينسجها بطريقة روائية لافتة، يجري بينها تداخلا واشتباكا وتكاملا، وكأنّ كلّ قضية هي صدى للأخرى، أو من نسل الفجيعة أو جذره التراجيدي نفسه، بحيث يحيل إلى التفكير في عبثية ما يجري، ودوافع المجرمين الذين ينسلخون عن إنسانيتهم المفترضة ويتحوّلون إلى وحوش بشرية تفتك بالآخرين المحيطين بهم بشتّى السبل.

الجغرافيا السورية بكلّ حمولتها التاريخية من المآسي والفجائع تكون البؤرة الرئيسة التي تنطلق منها الأحداث القاسية، يعود الروائيّ إلى بداية الثمانينات ليستذكر جزءا مما حصل في مدينة حماة، حيث وقعت مجازر وحشية في ما يعرف بأحداث حماة، حين شنّ النظام حملة وحشية على الإخوان المسلمين، ونكّل بالمدينة وانتقم منها بطريقة عدوانية.

يصف كيف أنّ ذاك الحدث لا ينفصل عما تمر به سوريا منذ ثماني سنوات من الاحتراب، وكيف أنّ الجرائم تظلّ جمراً تحت رماد الزمن لا تموت بالتقادم، وتعود للظهور بطريقة أكثر شراسة وإيذاء كلّ مرة، وواقع أنّ البلد تحوّل إلى بركان متفجّر، وملعب للوحوش والنيران تتقاذفه وتنشر الويلات والكوارث في أرجائه.

يصف الجشع المتنامي لدى بعض مَن يستغلون فترات الحرب والخراب، وكيف يظهر أبشع ما في النفس البشرية من صفات وطباع تكون مخبّأة تحت أقنعة مشوّهة، أو راقدة جاثمة في مكان قصيّ في النفس ولم تسنح لها فرصة للتجلي والتجسيد والتعبير عن ذاتها، وحين تجد الأرضية الملائمة تبدأ بالتغوّل والتمدّد كأنّها وباء مسموم ينقل الهلاك والخراب أنّى وصل.

يتنقل الروائيّ في عدة مدن سورية، ينتقل من حماة إلى إدلب، ويمضي بشخصياته إلى الرقة التي حوّلها تنظيم داعش إلى عاصمة مفترضة لدولته المزعومة وقام بتشويهها والعبث بتاريخها، ويقتفي أثر الشخصيات التي تعرضت لمحن جنونية في حماة في فترة الأحداث، ووقعت ضحايا جنون تلك المرحلة، وكيف أنّها صارت ضحية مرة أخرى في أرض الهلاك لاحقاً، وبدت وكأنها منذورة للمآسي.

يحمّل الروائيّ بطله زكريا دلالات تاريخية ويكون بوصلته ومسباره في الوقت نفسه، يكشف من خلاله خبايا الجغرافيات التي يتسلّل منها وعبرها إلى نفوس البشر الذين يشغلونها بطرقهم المتباينة، وتكون رحلته الحياتية كابوساً مديداً لا يستدل إلى أيّ نهاية، ويرمز بذلك، في إحالة ما، إلى أناس أهلكتهم ظروف الحياة من دون أن يكون لهم قرار بذلك، وكأنّهم يدفعون ضرائب ممارسات وجرائم غيرهم.

التجوّل في المدن السورية يواكبه تغلغل في تفاصيل الأمكنة الكثيرة التي تحضر، الأحياء والقرى، وكأنّ الروائيّ ابن الأرض السورية التي يتحرّك في ثناياها، يلمّ بتفاصيلها، ينقلها في سياقات حكائية مختلفة، ويثير أسئلة راهنة حيالها، عن طباع أهلها، وَمن عبثوا بها من العابثين، وكيف تغيرت بين زمن وآخر، بين سلطة جائرة ورجال دين تابعين لها، أو معارضين باحثين عن امتيازات السلطة في المعارضة، وكيف يتماهون معها في الممارسات الإجرامية بدورهم بحثاً عن السلطة الممقوتة نفسها.

خيبات وانكسارات تعكس مرارة الواقع

يقتفي الهوني آثار أبطاله السوريين الهاربين من جحيم الحرب، ومن رعب الوحشية التي تضخها الأطراف المتصارعة في الحرب في الأمكنة التي تحتلّها، إلى دروب الهروب والبحث عن سبل التهريب، من تركيا إلى ليبيا، وهناك حيث الوحشية المتجددة بدورها، وكأنّ الحرب والإجرام المصاحب لها لعنة الشخصيات التي تلازمها، تلاحقها ولا تفسح لها أيّ مجال للاستشفاء أو التداوي.

في مدينة الزاوية الليبية يكون رعب الانتظار، وخيبة الأمل بالخلاص، حيث عصابات تتاجر بالبشر، وأناس لا يردعهم أيّ رادع عن التنكيل بالمهاجرين، وابتزازهم واستغلالهم بأسوأ السبل، ودفعهم إلى مقبرة المياه؛ إلى البحر الذي يفغر فمه بانتظار ضحاياه، وكأنّ المهاجرين يصبحون قوت الأسماك في البحر، تتغذّى على جثثهم وتبقي ما تخلّفه ليضيع في أعماق المياه التي تتحوّل إلى مستودع أسطوري مأساوي للموتى.

يشير إلى أنّ الحرب تنتج واقعها المختلف الذي يكون له أبطاله المختلفون بدورهم، فالزعيم الحج مصباح يكون بقدرته الكبيرة على التسلط والإيذاء بالنسبة للمهاجرين وحشاً يفسد عليهم حياتهم وأمانهم المأمول، يبقيهم أسرى وكأنّه يستعبدهم، أو كأنّ عصر العبودية عاد من جديد في تلك البقعة النائية، وبناء على أمل، أو وهم، أنّه بصدد تحريرهم بنقلهم إلى الضفة الأخرى التي ستتكفّل بحريتهم وسعادتهم وحياتهم لاحقاً.

يؤكّد بطريقة روائية أن تشابك المصائر يجمع البشر الذين يكونون ضحايا الظروف والوقائع التي يمرون بها، فالمهاجرون الأفارقة الذين تجمعهم الظروف القاهرة مع لاجئين سوريين في ليبيا، ومع أناس من جنسيات مختلفة، يكونون صورة للمأساة نفسها، ووجهاً آخر للخيبة والخذلان والفجيعة، ولا تقل رحلتهم أسى وجنوناً عن رحلة السوريين الهاربين من جحيم الحرب والدمار، وتكاد تكون أكثر مشقة وقسوة.

رحلة عبور الصحراء جزء من رحلة عبور البحر، ويصف كيف أنّ التيه في الصحراء هو تيه في العدم، وأكثر خطورة من التيه في البحر نفسه، وأنّ الصحراء هي العدم نفسه حين تنبسط بطريقة لا نهائية، وتشتدّ وتقسو على مَن فيها، وتحرق أجسادهم وتحطّم أي آمال لديهم بالوصول إلى تخومها أو تجاوزها إلى مكان ما، وتظهر وكأنّها اللامكان بصيغة عنيفة.

يجري الهوني دمجاً بين مآسي البشر ومصائرهم، ويلفت من خلال ذلك إلى وحدة المعاناة الإنسانية بين الشرق والغرب، بين المهاجرين الذين تقودهم الظروف إلى ركوب المخاطر، وفقدان حياتهم في بحر الظلمات قبل الوصول إلى برّ الأمان المتخيّل، وكيف أن المصادفات تجمع أناساً من خلفيات مختلفة وتلقي بهم في مهالك مشتركة، وهذا جزء من تداخل المصائر والعوالم وتأكيد على أنّ الإجرام لا يتجزّأ، وإن كان يرتدي حللاً مختلفة، أو يتقنّع بأقنعة مختلفة متلوّنة تباعاً للظروف والزمان والمكان.

وبالإضافة إلى التشابك بين المصائر والأزمنة والأمكنة، يمزج الروائي بين الفلسفة والأسطورة والفكر والدين والأدب بطريقة روائية، ومن دون أن يظهر أي تنافر، بل يكون النسيج الروائيّ متجمّلاً بالتفاصيل ومكتملاً بها، وتراه يسرّب رؤاه عن قضايا تاريخية أو معاصرة، في سياقات حكائية مناسبة، من دون أن يكون هناك إقحام للأفكار أو إثقال على القارئ بالتنظيرات.

لعلّ بالإمكان توصيف رواية “مقبرة المياه” بأنّها رواية زمننا بما فيه من تناقضات ونقائض، وما يشتمل عليه من جنون واختلاف، رواية تلتقط مفارقات الحياة لتحرّض على البحث عن الأمل وسط ركام المآسي والفجائع، وعدم الاستسلام لليأس، وإن بدأ قاتلاً ووحشيّاً بطريقة لا ترحم.. رواية تحرّض على البحث عن الإنسان الكامن في النفس البشرية، ومحاربة الوحش الذي يستوطنه والذي يظهر ويتجسّد في ظروف مختلفة، عساه يساهم بقسطه في تجميل العالم الذي يلوّثه تجّار الحروب والدماء بقذاراتهم الإجرامية.