مكان للفرح في بيروت

النظام السوري لم يعرف أبدا البديهيات من نوع انّ دمشق تصبح اكثر ازدهارا في حال ازدهرت بيروت.

لا يزال مكان للفرح في بيروت. كان يمكن للبنان الغرق اكثر في وحول ازمته لو لم يوجد من يريد بالفعل انتشال البلد من الوضع الراهن من جهة واحياء الامل بمستقبل افضل من جهة أخرى.

لم تكن احتفالات بيروت ليل رأس السنّة سوى عنوان للرغبة في المقاومة لدى كثيرين، يقدّرون بعشرات الآلاف ما زالوا يرفضون الاستسلام لثقافة الموت. لكنّ السؤال الى متى تستمر هذه المقاومة وهل تدوم اكثر من ليلة واحدة، هي ليلة استقبال السنة الجديدة؟

لا تزال بيروت تقاوم. كشفت كميّة الفرح في وسط بيروت كم هناك توق لدى الاكثرية الساحقة من مختلف الطوائف والمذاهب والمناطق والطبقات الاجتماعية لاعادة الحياة الى ثقافة الحياة. أي الى لبنان الذي يمثل مجموعة من المواطنين ينتمون الى مشارب مختلفة يؤمنون بالعيش المشترك بعيدا عن العنف وثقافة السلاح الميليشيوي والمذهبي.

لكنّ اهمّ ما كشفته تلك الليلة، التي جعلت العالم يعترف بان احتفالات بيروت كانت بين اجمل الاحتفالات في مدن العالم التي استقبلت 2019، هو دور وسط المدينة. انّه دور إعادة الحياة الى العاصمة والى لبنان ككلّ بعيدا عن الشعارات الفارغة. كشفت تلك الليلة أيضا التي اختلطت فيها الموسيقى والاغاني بالالعاب النارية في حضور رئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري لماذا كلّ هذا الحقد على بيروت. بلغ هذا الحقد ذروته بتفجير موكب رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005. لم يكن رفيق الحريري الذي تحوّل في تلك المرحلة الى زعيم وطني عابر للطوائف والمناطق مستهدفا وحده. كانت بيروت مستهدفة أيضا. ولذلك، كان ضروريا استتباع اغتيال الرجل الذي أعاد الحياة الى العاصمة باعتصام استمرّ اشهرا عدة في خريف العام 2006.

كان الهدف واضحا في كلّ وقت. فبحجة اسقاط حكومة فؤاد السنيورة واستعادة التمثيل الصحيح، أي للقوى التي تقف مع النظام الأمني الايراني – السوري،  بدأ نصب الخيام في ساحة رياض الصلح. حدث ذلك من اجل تهجير اكبر عدد من اللبنانيين من بلدهم. كان مطلوبا بكل بساطة القضاء على الامل. كان مطلوبا ضرب الاقتصاد وتعطيل الحياة انطلاقا من نبع الحياة لكلّ لبنان. من وسط بيروت وليس من ايّ مكان آخر.

لم يتغيّر شيء في لبنان منذ سنوات طويلة. يندرج كلّ ما حصل ويحصل حاليا في سياق واحد هو جعل ثقافة الموت تنتصر على ثقافة الحياة. هذا ما يفسّر حرب صيف العام 2006 والاعتصام الذي تلاها في وسط بيروت... وصولا الى غزوة العاصمة والجبل في ايّار – مايو 2008 من اجل اخضاع اهل بيروت والجبل الدرزي.

جاءت احتفالات رأس السنة في وسط بيروت لتؤكّد انّه لا يزال في لبنان شعب يرفض الهزيمة وانّ الهجوم على وسط المدينة هو هجوم على لبنان. من ليس مقتنعا بذلك، يستطيع العودة الى سبعينات القرن الماضي عندما اندلعت الحرب الاهلية التي كانت حروبا بين اللبنانيين وحروب الآخرين على ارض لبنان. كانت هناك ميليشيات مسيحية وأخرى إسلامية وكان هناك مسلّحون فلسطينيون يعملون على التخريب من اجل التخريب. كان معظم المتقاتلين يحصلون على السلاح من سوريا فيما كانت كميات أخرى من السلاح تأتي عبر البحر من مصادر أخرى. لكن الهدف النهائي كان تدمير بيروت ووسط المدينة بالذات كي لا يلتقي اللبنانيون من مختلف الطوائف والمناطق مجددا. ذهب النظام السوري في مرحلة معيّنة الى تكريس خط الفصل بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية عن طريق تمركز قوات تابعة له تنتمي الى ما يسمّى "جيش التحرير الفلسطيني" على طول هذا الخط!

وظّف النظام السوري "جيش التحرير الفلسطيني" في عملية الفصل بين المسيحيين والمسلمين في بيروت. عمل كلّ ذلك من اجل الّا تقوم لبيروت قيامة في يوم من الايّام. كان يعتقد ان دمشق ستزدهر لمجرّد تدمير بيروت. انّه نظام لا يعرف البديهيات من نوع انّ دمشق تصبح اكثر ازدهارا في حال ازدهرت بيروت. والعكس صحيح. ولكن ما العمل مع نظام يعتقد ان ازدهار بيروت موجه ضدّه

لم تتوقف الامور عند هذا الحدّ. ما كادت حرب السنتين (1975 – 1976) تضع اوزارها حتّى بدأت حروب أخرى من نوع آخر، خصوصا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وبعد دخول ايران على الخط مباشرة بعد قيام "الجمهورية الإسلامية" وبعد تأسيس "حزب الله". صار مطلوبا تغييرا طبيعة بيروت بما في ذلك التركيبة السكانية للمدينة. لذلك كان ما فعله رفيق الحريري عندما أعاد بناء وسط بيروت اقرب الى معجزة من ايّ شيء آخر. تطلبت تلك المعجزة طمأنة حافظ الأسد بكلّ الوسائل الى ان الامر ليس موجها ضد نظامه وان لا احد يريد إيذاء سوريا انطلاقا من لبنان. لم تنفع كلّ تلك التطمينات في المدى الطويل بعدما اعتبر بشّار الأسد ان لبنان، بالنسبة اليه، هو "حزب الله" وان في استطاعته استخدامه "ساحة" في لعبة التجاذبات العربية والدولية.

من المهمّ ان تبقى بيروت صامدة وان تظهر قدرتها على الردّ في ظلّ الهجمة التي يتعرّض لها لبنان على كلّ المستويات. حصل اختراق إيراني في العمق للمسيحيين. هناك محاولة واضحة لايجاد شرخ عميق لدى الدروز. هناك محاولات متكررة لإخضاع الطائفة الدرزية التي لعب زعيمها دورا في محوريا في التصدي للنظام السوري وتعريته قبل اغتيال رفيق الحريري ومباشرة بعد حصول الاغتيال. فوق ذلك كلّه لم يكن من هدف للانتخابات النيابية الأخيرة والقانون العجيب الغريب الذي أجريت على أساسه سوى اظهار ان السنّة ليسوا كلّهم مع سعد الحريري. كان سعد الحريري الهدف الاوّل لـ"حزب الله" ومن خلفه ايران في تلك الانتخابات التي خرج منها بأقل كمّية من الاضرار.

الى متى ستظل بيروت تقاوم؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال. ما ليس صعبا تحديده هو حجم الهجمة المتجددة على العاصمة اللبنانية، وهي هجمة شعر اللبنانيون عموما بمدى خطورتها. كان شعورهم هذا وراء نزولهم بكثافة الى ساحة النجمة وسط المدينة ليلة رأس السنة. كان نزولهم دليلا على وجود وعي لما هو على المحكّ في بلد منقسم على نفسه يعاني من ازمة اقتصادية عميقة، بلد من دون حكومة منذ ثمانية اشهر لسبب في غاية البساطة فحواه ان ايران تعتبره ورقة من اوراقها في المواجهة مع اميركا. لم يجد اللبنانيون ما يردّون به على هذا المنطق سوى الموسيقى والغناء والألوان الزاهية والألعاب النارية والفرح. أرادوا بكل بساطة الدفاع عن مدينتهم وإظهار تعلّقهم بثقافة الحياة التي يوجد من يريد حرمانهم منها الى ابد الآبدين. الامل بان يكون هذا الردّ لأكثر من يوم وليس في مناسبة رأس السنة فقط.