مكتبة المتوسط بالناظور نموذج للوقف العلمي

المبادرة تأتي لتعزيز المشهد الثقافي بالناظور من خلال توفير بيئة معرفية متطورة تسهم في دعم البحث العلمي وتشجيع القراءة والحوار الثقافي، بالاعتماد على الوقف العلمي والتقنيات الحديثة.
الزبير مهداد
الرباط

للوقف أبعاد دينية واجتماعية واقتصادية وثقافية وإنسانية غطت أنشطتها سائر أوجه الحياة الاجتماعية وامتدت لتشمل المساجد والمرافق التابعة لها، والمدارس ودور العلم والمكتبات، والمؤسسات الخيرية، وكفالة الضعفاء والفقراء والمساكين والأرامل، والدعاة، والمؤسسات الصحية.

إن الوقف من أهم وسائل التقدم العلمي والفكري والثقافي للبلاد؛ بفضله تم بناء صروح العلم ونشرها كالمساجد والمدارس والمعاهد، وتخرج من هذه المؤسسات العلمية الموقوفة عدد من العلماء في شتى فروع المعرفة البشرية. فكان للوقف العلمي دور هام في نهضة التعليم والتطور العلمي والثقافي، وكل العلماء الأعلام والفقهاء والأدباء مدينون بالفضل لنظام الوقف الذي مكنهم من فرص التعلم والتثقيف وقدم لهم الدعم الكامل، ووفر لهم كافة الشروط التي أتاحت لمواهبهم النمو ولقدراتهم البروز ومواصلة السير في درب التألق.

إذا كان الوقف قديما قد أفلح في التغلب على عوائق التعلم الاقتصادية والاجتماعية، ونشط الحياة الثقافية، فإن الضرورة اليوم لإحياء نظام الوقف العلمي أضحت أقوى وأشد إلحاحا من الماضي، بسبب تغير الظروف، وتطور حاجات المثقفين والباحثين، فهناك حاجة قصوى إلى توفير أوعية المعلومات من كتب ومجلات وبحوث ووثائق، في أشكالها المتنوعة الورقية والإلكترونية، لإحياء عادة القراءة لدى الناس، وتوفير المعلومات للباحثين والدارسين، إسهاما في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. لأن المعلومات تحتل في سياق التنمية مكانة مرموقة جدا، بل أصبحت تماثل في مكانتها المواد الأولية. فإذا كانت المواد الأولية ضرورية للإنتاج المادي في المجالات الصناعية والفلاحية والخدماتية، وإتاحة المعلومات وحسن استغلالها يمكن من حسن استغلال المواد الأولية وتنميتها واختراع مواد بديلة على حد تعبير المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة. فهي عنصر من عناصر الإنتاج كالمواد الأولية. وهي المادة الوحيدة التي بخلاف سائر المواد، لا يبيدها الاستعمال، بل ينميها وينضجها.

إن إسهام المكتبات ومراكز المعلومات في نشر المعرفة وفي التنمية مرتبط باعتماد البحوث العلمية على ما في مخزون هذه الوحدات من المعلومات. واستعمال هذه المعلومات وحسن استغلالها يتطلب توثيقها وتوفيرها في صورة صالحة للاستخدام والاستثمار، بشكل يتيح الاستفادة القصوى منها في حصر المشاكل وتحليلها واختيار حلولها. وهذه الخدمات التوثيقية تعتبر من ركائز البحث العلمي وأسباب نجاحه. لأنها تساعد المعنيين بالأمر، باحثين كانوا أو مخططين أو قادة، في تعرف ما نشر وينشر حول موضوع اهتمامهم، وتجعلهم على اتصال ومعرفة دائمة بكل التطورات الطارئة عليه والمستجدات في حقله.

فدور المكتبة ليس قاصرا على دعم البحث العلمي، بل لها وظائف أخرى، فهي بنك للمعلومات، تجمعها وتصنفها، وتتيحها لطالبيها في أحسن حلة، كما تخطط لنشر المعلومات بين الفئات المعنية بها، وتساهم في تثقيف العامة وتشجيع التثقيف الذاتي والتكوين المستمر للأفراد، تحفظ فوق ذلك كله رصيد الأمة الثقافي والعلمي. وهذه الوظائف المتعددة هي التي اقتضت تغيير اسمها ليصبح "مركز التوثيق"، وبدلا من الاقتصار على حفظ الوثائق المكتوبة وجمع أوعية المعلومات الورقية، ضمت هذه المراكز أوعية المعلومات الأخرى المسموعة والمرئية والأشرطة والأقراص الممغنطة وغيرها. بل حتى التلفزيون أصبح في هذه المؤسسات وعاءا للمعلومات مهما، فاحتل مكانه المتميز في أجنحتها، يطلع من خلاله المستعلمون على ما تحمله قنوات البث الوطنية والعالمية.

لم يعد الوقف العلمي في عصرنا الحالي يحظى بالعناية التي يحظى بها الوقف على المجالات الأخرى. لا يفهم من هذا الكلام تبخيسا أو تقليلا من أهمية هذه المجالات الاجتماعية، إلا أن المراد هو لفت النظر إلى أهمية الوقف العلمي وضرورة الاستفادة منه، وتوظيفه في عملية النهضة الثقافية والعلمية التي تطمح لها الأمة لبلوغ تقدمها الشامل. تأسيا بالعصور السابقة التي أسهم فيها الوقف في تحقيق نهضة باهرة وبناء صرح حضارة كبرى، أشع نورها في سماء العالم وأضاء السبل أمام البشرية جمعاء. فالباحث المغربي اليوم أمام هذا التدفق الغزير للمعلومات التي ينتجها العالم المتحضر أصبح شبه معزول عن تداول حتى المعلومات الأساسية التي أضحت بسيطة والمتعلقة غالبا ببلاده وتراثه والعطاء العربي في مجال تخصصه. وهذا مبرر كاف للدعوة إلى إنشاء مكتبات ومراكز توثيق وقفية، تسهم في النهوض الثقافي وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ببلدنا.

مشروع طموح

وفي هذا الإطار تأتي المبادرة المباركة بإنشاء "مكتبة المتوسط" التي أعلن عنها الدكتور عبد الحميد يويو، يوم الخميس 13 مارس/اذار 2025، في الحفل الذي أقيم بالمركب الثقافي بالناظور. هذه المبادرة التي يقف خلفها جماعة من خيرة مثقفي إقليم الناظور الملتئمين في إطار "جمعية مكتبة المتوسط"، تأتي في إطار تعزيز المشهد الثقافي بالمدينة، ودعم القراءة والمطالعة كرافعة أساسية للتنمية الفكرية والاجتماعية وسيشكل هذا الفضاء الثقافي الجديد منصةً تجمع عشاق الكتب والباحثين، وتوفر بيئة ملائمة للمعرفة والإبداع. وفيما يلي تعريف بالمشروع نقلا عن الوثيقة التقديمية التي أصدرتها الجمعية، ببعض التصرف.

تعريف مكتبة المتوسط

يسعى مشروع مكتبة المتوسط، إلى أن يكون صرحا ثقافيا ومعرفيا يعزز البناء الثقافي والفكري للمغرب المعاصر، ويعزز الأبعاد المحلية لمدينة الناضور ثقافة وتراثا ويفتحها على أفاق دولية، وهي مساهمة من مثقفي ومفكري المنطقة في التنمية الثقافية لمغربنا الحبيب.

وتهدف المكتبة إلى جمع وتصنيف وإتاحة الكتب والمخطوطات المتعلقة بالدراسات الدينية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وبتاريخ المغرب وحضارته، بمختلف اللغات للباحثين وعموم القراء، بهدف تعزيز الحوار والتفاهم في حوض البحر الأبيض المتوسط. كما تسعى المكتبة لتكون مركزا علميا وثقافيا يدعم البحث الأكاديمي، وينظم أنشطة معرفية وثقافية، ويشجع على وقف الكتب لإغنائها وتطوير المعرفة وإعادة الاعتبار للثقافة والمثقفين، وتحقيق الإشعاع الفكري والحضاري، مع التركيز على توظيف التقنيات الحديثة لإتاحة محتواها محليا وعالميا. كما تهدف إلى دعم وتشجيع الترجمة بين اللغات.

إن المكتبة من هذا المنطلق، وهي تتأسس على قاعدتين:

  • قاعدة مادية: منطلقة من ذخيرة كبيرة من الكتب والمجلات والدوريات، (أزيد من 54 ألف وعاء) التي قل وجودها اليوم في عدد من المكتبات، والتي تم جمعها عبر عقود؛
  • قاعدة رمزية وفكرية: تبتغي التأسيس لمجتمع المعرفة وكسب التحديات المفروضة علينا اليوم، في ظل عولمة الأنساق الثقافية وتنميط الأذواق والاختيارات، وصناعة الإنسان الاستهلاكي لما تنتجه النيو ليبرالية من منتجات مادية ورمزية، ذات تأثير خطير على الهويات والانتماءات الثقافية.

وهذا التأسيس يكسر القيود والنمطيات التقليدية على الكتاب والمفكرين، عبر تيسير حضور الكتاب وفعل القراءة في الفضاء العمومي، الذي نبتغيه فضاء للحوار والاختلاف والحريات والبناء المعرفي للمجتمع. وعلى هذا الأساس، فالمكتبة مشروع فكري وطني يؤسس للاستنهاض الحضاري للمغرب عامة وللمنطقة على وجه التخصيص.

وعليه، فالمكتبة الرقمية وأسانيدها التواصلية والتفاعلية، ستجعل من مشروع مكتبة المتوسط مكتبة بمواصفات عالمية، حديثة ومعاصرة، تأتي في سياق التظافر والتعالق الوظيفي لتعزز المشهد الثقافي ببلادنا، مساهمة منها في النهضة الثقافية.

أهداف المكتبة:

  • جمع أوعية المعلومات (كتب ومجلات) الدينية والفكرية والاجتماعية بمختلف اللغات، الورقية والإلكترونية، وتوثيقها ورقمنتها وفهرستها، وإتاحتها للقراء والباحثين؛
  • نشر وترسيخ سلوك القراءة في الأجيال الصاعدة، وتعويد النشء على استمداد المعرفة من أوعيتها الصحيحة؛
  • دعم البحث العلمي، بتوفير بيئة داعمة ومحفزة؛ ومواكبة الباحثين في الفكر العالمي المعاصر، وتنظيم تداريب وندوات فكرية، وتعزيز البحث في التراث المغربي والإنساني؛
  • الصناعة الثقافية، إنتاج برامج سمعية بصرية، وإصدار نشرات ثقافية، وكتب ومحتويات رقمية وثائقية؛
  • تشجيع ورعاية الحوار الثقافي بتنظيم ندوات وبرامج تعزز التفاهم والتسامح، وتعزيز التلاقح الثقافي، وطنيا ودوليا.
  • ترسيخ ثقافة الاعتراف، عبر تكريم شخصيات وطنية ودولية ثقافية وفكرية ورياضية وعلمية ورواد الأعمال الوطنيين؛
  • تمكين المرأة، بتخصيص برامج وورشات لتعزيز دورهن في الصناعة الثقافية والإبداع؛
  • إطلاق جوائز تشجيعية للكتاب والمبدعين الشباب وللنساء المتميزات في المجالات الثقافية.

مراعاة لطبيعة المحتوى الوثائقي الفكري، وتعدد لغاته، فإن المكتبة، ستنطلق من تجربة المغرب الرائدة كنموذج في التعايش الديني بين مختلف العقائد، وتجربة حوار الأديان في حوض البحر المتوسط، الذي يجمع بين ضفتيه شعوبا مختلفة الأعراق واللغات والديانات، لإبراز التراث المشترك الجامع للشعوب، تعزيزا للتفاهم الدولي، في عصر طغت فيه الصراعات والنزاعات.

وستعتمد خطة العمل عدة عمليات:

  • جمع التراث المشترك وصونه، وإتاحته عبر منصات رقمية؛
  • دعم البحث العلمي وتشجيع الدراسات المقارنة التي تسلط الضوء على القيم الإنسانية الجامعة، وتعزيز قيم التعايش والتسامح؛
  • تنظيم أنشطة ثقافية وفكرية تحفز الحوار البناء بين الأديان.

ولأجل تنفيذ المشاريع الطموحة، ستتوسل المكتبة بالتعاون مع الجامعات والمراكز البحثية الوطنية والدولية؛ إقامة شراكات ثقافية مع المؤسسات الثقافية وطنيا ودوليا.

نداء

إن مكتبة المتوسط ليست مجرد مكتبة تقليدية، بل هي مشروع تنموي وطني، وإنجاز حضاري، يسعى إلى بناء جسور التواصل الثقافي بين الشعوب وتعزيز القيم الإنسانية المشتركة، وربط الشمال والجنوب وفق رؤية حضارية جديدة، تتأسس على الحوار الفكري والتساند الأخلاقي من أجل عالم أكثر حرية وعدلا وإنسانية.

 وإننا اليوم، في ظل هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الوطنية، نحتاج إلى مزيد من الوعي بأهمية الوقف العلمي وبيان المنافع التي يثمرها، وتوعية الواقفين بأهمية الاستثمار في العلم والثقافة، وأثر ذلك في التنمية الاقتصادية. إننا في الوقت الراهن في حاجة إلى الوقف العلمي، لتعبئة الإمكانات المالية لتحقيق النهضة الثقافية.

ولهذا نهيب بكل المثقفين والمفكرين الإسهام بهبات من الكتب والمصادر والمراجع، وقفا على القراء والباحثين، ودعما واغناءً لها.

كما نهيب برجال المال والأعمال من ذوي النيات الصادقة والوطنية الرفيعة الإسهام في بناء مقر يليق بحجم المكتبة وأهدافها وغاياتها السامية، وسواء تعلق الأمر بمسهمين من أبناء المنطقة، أو من مختلف مناطق مغربنا الحبيب من داخله ومن خارجه، فإن هذه الهبات والمساعدات ستشكل دعما وقفياً لا غنى عنه، إذا أردنا فعلا تحقيق هذا الحلم الجماعي، الذي سيشكل رافعة مهمة للنهوض الثقافي والفكري بمنطقتنا وجواراتها المتوسطية.