ملاحظات نقدية حول ثلاثة دواوين مصرية

تكرار المعنى في الإهداء والمقدمة بديوان "شتاء عجوز ليته يمر" لسيد عبدالرحيم يتفق مع الشك في التوصيل، وشك الذات في كل القيم التي تحيط بها.
أهم ما يميز تجربة حاتم مرعي في ظني بحثه طوال الوقت عن الإنسان وعن لحظات إنسانية "حقيقية
النص يفتح قوسه للنهاية فيستوعب الحرب والتاريخ والمشاعر الغفل والأحاسيس الملقاة دون أن ينتبه إليها أحد

لا تكتفي الذات بإعلان المسافة بينها وبين العالم في الإهداء فقط عندما أظهرت اكتفاءها بالجلوس على المقهى ومراقبة الوجود منحية قدر الإمكان الاشتباك والتورط معه، ولكن الديوان يضع مقدمة بعد الإهداء ويظهرها بألف ولام التعريف: رديف الإصرار والتحديد، فيقول: "المقدمة"، معلناً أنه سيقف عند حدود الحياة، على التخوم والأعراف، ليس لأن الدخول إلى المعترك فيه هلاك الذات ولكن لأن النتيجة معروفه سلفاً: الملل والانصهار في أتون العبث.
إن تكرار المعنى في الإهداء والمقدمة يتفق مع الشك في التوصيل، وشك الذات في كل القيم التي تحيط بها، وأخصص في القيم، كل أنماط التلاقي مع الآخر، وكذا الشك في اليقينيات، في انضباط العالم وانتظامه وقبوله للتفسير. اليقين الوحيد الذي تلتحف به الذات، مع نفورها الواضح والحقيقي من تجليات أي يقين: الثقة والتأكد والقبض على المعاني. أقول إن اليقين الوحيد الذي تسمح تلك الذات المكتفية بكنهها، له أن يتسلل من نافذتها ذات الستائر السوداء هو العبث وعدم معقولية العالم وسخافته. ولكنه يقين ليس كأي يقين لأنه يتيح لك الهروب ويبرره، لكن لأن الذات لا تزال تذكر الأصدقاء والحبيبات والأشباه فإنها تستثير خيالاتها لتعوض عدم التواصل الفعلي، فنجد الذات تطور إمكانيات الرقص في الظلام ثم تتماهى مع أبطال الروايات وتحبها وتكرهها وتعيش معها حيواتها الصاخبة وتذوق حرارة تجاربها. هذه الذات لم تحسم للأبد اختيارها للعزلة، لهذا فإنها تتوق لامرأة، والمرأة رمز الحياة الملموسة والحقيقية، ثم تصرح أنها تبحث عن روح تتمناها. ولكن لماذا، هل لإمدادها بقوة الحياة وبعدها يصل الاشتباك الحقيقي أم لإضفاء حياة على التشخيص الماثل في الشرنقة التي تقبع بها الذات؟ يتراوح الأمر بين الاختيارين ومن تراوحهما ينطلق الشعر ويدلي بدلوه في التاريخ والسلطة والحرية والتفاصيل، وإن بشكٍ لا يتزحزح في النتائج. 

 الخيال هو الكنز أو حائط الصد الوحيد المتبقي لهذا البطل، وهو يشبه تماما ذلك الفانوس، الذي إن حككته، وأنت ملئ بالرغبة في الحياة، يخرج المارد وينقلك على جناح قوتك المخيفة إلى ما تريد 

يبدأ الديوان بقصيدة "خطوة للحياة" وينتهي بقصيدة "آخر الخطوات" ليرسم في المنتصف أوراد الفقد المسيطرة طول الوقت والحزن والوحدة وتأجيل الحياة في انتظار مغامرة لا تأتي أبداً. إن الذات التي ترزح تحت ملل الوجود، من الطبيعي ألا تثرثر. لهذا جاءت اللغة غير مترهلة ومُحْكمة وتنفر من الزيادات البلاغية وإن شابتها المباشرة أحياناً. هذه الذات تهمس فقط وتستخرج حروفها التي تصير كلمات لا تحمل العزاء ولا التطهير للذات المعذبة بل لا تزيد إلا الحيرة وتوكيد قيمة (لا فائدة). تستخرج كلماتها التي تصير معانيها المجهضة من بطن الصمت، وبعد تردد يساوي مشهداً لإنسان يمد يده للسلام ثم يسحبها ليخفيها في جيبه حيث الأمان الكامل وكذلك حيث الملل. يذكر أن "شتاء عجوز ليته يمر" لسيد عبدالرحيم صدر عن المجلس الأعلى للثقافة 2010. 
جسارة الجنون و جماله
"كان لازم نرقصها سوا" لمدحت منير
كنت قد أشرت سابقاً وفي أكثر من مقالة، لآفة تعمق فكرة المركز والهامش في الثقافة المصرية، ومن تجلياتها في الإبداع: شعر العامية المصرية الجديد، والذي يتقاسمه مركز يحظى بالضجيج وهامش يرضى بالقليل، إلا أن المفارقة، أن الأمر في ذهن المتابع والراصد والمهموم غير ذلك. فتجارب شعراء مثل مدحت منير (الإسماعيلية) وحاتم مرعى (السويس) وعبدالرحيم طايع (قنا) وضاحي عبدالسلام (دمياط) وغيرهم مركز، وفى القلب بالتأكيد، إذا حَكّمنا النص والقيمة لا الجغرافيا، ومؤشر حقيقي ونابض لتطور ونضج ثورة قصيدة العامية الجديدة.
ومن الأصوات التي تشدك سريعا ثم يتأكد هذا الانطباع إلى أن يصير يقيناً مدحت منير، لأنك تلتقط قلقه الإبداعي الذي لا يهدأ، وتسعد به، لأنه من أصعب الأمور، كون المبدع واعياً لفكرة الاختلاف. أن تحاول طبع بصمتك الخاصة التي لا تهنأ لفكرة أنها (قد) تتشابه مع غيرها، بل تنتفض من هذا. أن تتعامل مع وعي مبدع يخون يقينياته سريعاً ليصنع توتراً وأسئلة هى في ظني جوهر الإبداع وسؤاله السري، الأشقى والأكثر صعوبة أن تحافظ على اختيارك ذاك. مدحت منير، من بداياته يفعل ذلك. والمتابع يلتقط ويحس ويمسك.
منذ اللحظة الأولى، كان أمام مدحت منير طريقان؛ طريق به وصفة جاهزة أغرت الأدعياء قوامها اليومي والعادي والمعيش ونفى الأيديولوجيا والسرد البارد ... الخ، والطريق الآخر، الأصعب والحقيقي في العمق، أن يكتب نصاً يخطو به خطوات أبعد من ذلك، أن يستخدم إمكانات النثر المتسعة للنظر من جديد وللدخول من طرق أخرى. أن يكتب شعراً، يقول المتلقي هذا نص فلان. أن يقتفى خصوصيته ويدور حولها ويمزق ويمزق ثم يقبض على نصه هو. 
وفى ديوان "كان لازم نرقصها سوا" يطيب له أن يلعب معنا أو بنا أولنا، لا فرق كبيراً، إنه يوهمنا وما أن نتماهى معه. يضحك في النهاية قائلاً بلسان حاله أو بوعي نصه، لا تصدقوا الخارج سريعاً وابحثوا وراء الحافة وفى عمق المشهد. يصدر لنا طول الوقت انطباعاً بأنه يصنع جماليات الشر ويجعلنا نشم أزهار شر بودلير. نمارس العنف لكن بإيجابية الهدم، حيث هذا هو السبيل، لتخرج سماء أخرى من تحت الركام. النص يفعل هذا ويقوله ويرسخه. ولأنه ساحر حقيقي، يضمن أرواحنا في كمه الواسع، لكننا نفاجأ بعد جرعات الجمال الأولى... هذا إذا فرقنا بين قراءتين: واحدة جمالية للمتعة وأخرى نصية، مثلاً، تبحث وتشارك وتلعب مع المبدع، الحقيقي بالطبع....تفاجأ، أن الأمر ليس هكذا بالضبط، وأن خلف العنف والشر والاغتصاب والقتل تكمن إعادة النظر، أو النظر، بفتح الحدقات لنهايتها وإتاحة الفرصة للبصيرة كي تشرق وللوعي أن ينير بشمس أخرى.
إنه منذ اللحظة الأولى يعلن أنه بصدد التخلص من ظلاله القديمة التي صاحبته طول عمره، وبالإحراق، لأنه في قلب النار، وفى الأعماق ينام النور، فإذا ظننا أن التشابه بين البطل، الإنسان المحكي عنه، وبين الآخر: يؤدى إلى السكونية وإفراز صور متماثلة، نكون واهمين، لأن مدخل الأمر ومفتاحه يكمن في إمكانية القرب لحد العداوة وللملائكاتية حتى لدرجة توليد الشياطين.

ينظر مدحت منير إذن للأمور من شريان آخر، من مدخل وزاوية أخرى، قد تكون مدهشة، وقد تكون مربكة للمتلقي، ليحدث التفكر ومن ثم الصداقة بينهما. لا فكاك أبداً أبداً من الأسئلة المبذورة طول الديوان: عن حقيقة الحب في مرايا الذات ومرايا الوحدة ومرايا الموت، وعن جماليات القتل التي تنتشي، الروح المقتولة طول السنين، بنكهتها. وعن الدنيا المتسعة/الضيقة، واللافت أنه وسط هذا الأتون، لا يغفل ولا ينسى أن يمنح وسط متاهته عالية الفكر تلك من الجماليات الشعبية ومن العلاقات الصغيرة ومن المونولوجات ومن الموسيقى، لكنه طول الوقت يسمح للشعر أن يتفجر من مسامٍ أخرى:
"ماتخافش 
الشعر ها يهبط دايما من قلب الشتوية
يخربش كفك
 وترفرف جناحاته بخفة موت
أول ما الدم يسيل
وتسلم أمرك لديسمبر".
فى "كان لازم نرقصها سوا" يواصل مدحت منير مشروعه الخاص الباحث عن التفرد، وإن بجسارة أكبر وجنون أكثر اتساعاً. 
يذكر أن "كان لازم نرقصها سوا " صادر عن دار ميريت  2009.                                            
القلب يلتقط الجوهرة
"ريحة ملايكه" لحاتم مرعي
من أهم ما يميز تجربة حاتم مرعي في ظني بحثه طوال الوقت عن الإنسان وعن لحظات إنسانية "حقيقية. يبدأ من الذات ليصادق بعدها أرواح الآخرين ثم يعود إلى تلك الذات، التي هي منطلق الدراما والحكي والشعر، يعود وهو محمل بالمصائر والأحزان والمباهج ولحظات الانكسار والأوقات التي تسقط فيها الأقنعة ويتقشر الجلد عن الطائر الممسك بالجوهرة.
يهمس حاتم، ولن تستطيع التقاط هذا الهديل إلا إذا فتحت بوابة الإنسان فيك، وقتها يتفجر التخييل وتتصادقان ويكب داخلك روحه ويتشربك وتنسرب أنت إليه، في نفس اللحظة.
وفي ديوانه "ريحة ملايكه" يحدد لك – باعتبارك صديقه المفترض - بالمفتتح الخاص بأونجاريتى - ثم مفتتحه الشعري: مسرحه وميدانه الذي سيتجول فيه، وهو الذات، ولكنها الذات المكتنزة، المحملة بالآخرين، ذات تهفو إلى الاندماج والتواصل، لكن إن عز القرب وصعب يكون البديل والمعوض هو الأحلام، في التخييل والدراما، التي تسمح ببناء عوالم كاملة ويكون الإنسان هو الخالق وهو صاحب المصير، إنها رحلات ماكرة في الزمان والمكان قد يوهمنا النص بحرفيته، بمدى واقعيتها وقد يومئ أنها متخيله ولا فرق بينهما كبيراً. 
كأنه عجوز الماضي الصادق في صالة الديسكو البراقة، الخادعة، أو كأنه بائع الساكسونيا الوحيد في زحمة أشيائه، أو هو الممثل الذي تمر عليه كل الأدوار وهو متوحد على سرير تخيلاته.
يلتقط حاتم مرعي الأحزان، من خلف أي مشهد  ومن قلبه ومن أطرافه وينفخ لتطلع الأرواح وتبدأ الدهشة، كما أنه يكتشف لنا ومعنا كل الحياة المخفية في الجمادات ويتعامل معها ببساطة وعادية، وكأن كل الحواجز ما بين أنماط الوجود هي مجرد حواجز وهمية صنعها مجرد التواطؤ ليس إلا. ليست المرآة إذن هي مجرد مرآة بل هي النور المجمد، كاشفة الحزن، بوابة الروح والحطام الناتج عن الحروب ليس مجرد حطام، إنما هو أصوات وروائح وإيماءات وقبلات محطمة ومصائر موّارة طول الوقت. القطار والكورنيش والإسفلت .. الخ، كلها تختلف في النص عن  صورتها فى المخيلة. 
إن الخيال هو الكنز أو حائط الصد الوحيد المتبقي لهذا البطل، وهو يشبه تماما ذلك الفانوس، الذي إن حككته، وأنت ملئ بالرغبة في الحياة، وتشبه رعشة الفضول وطمعه وقدرته المخفية، يخرج المارد وينقلك على جناح قوتك المخيفة إلى ما تريد.  وهكذا في قصيدته "باضحك لأني خايف": تحب المارد لأنه مثلنا ومثل مبدع النص يعانى من الوحدة والعزلة والاغتراب والموت ذو الوجوه المتعددة. 
كم مرة يستخدم النص دال الحزن ومشتقاته، مرات كثيرة حقاً، وكم مرة يصرح ويقول "وحيد" أو "خايف"، مرات كثيرة كذلك، لكنه أيضاً يحتمي بدال "باحلم"، "باتخيل" ويكرره، إنه ملجأه الوحيد، والجميل في الآن نفسه.  
تنجح نصوص الكتاب في صنع جملة حساسة تدخلك بلا معاظلة وبلا تكلف، وهي كذلك جملة على حبل مشدود دائماً، تضربك وتصادقك في نفس الوقت، كما تدل الكتابة على ثقافة كاتبها، لكن دون تثاقف، يجيد رسم المشهد ولكن دون أن يستغرقه ذلك فيهمش المردود الشعوري الخارج منه، ويضيع في فخ البرودة، وبسهولة شديدة نلمح أن هناك فلسفة في النصوص هي فلسفة الاكتشاف وطزاجته واندهاشه وليس هناك "تفلسف" مجرد ينقل التجربة إلى الترف العقلي. 
إن النص يفتح قوسه للنهاية فيستوعب الحرب والتاريخ والمشاعر الغفل والأحاسيس الملقاة دون أن ينتبه إليها أحد والحيوان والجماد ... الخ،  ويندغم  كل هذا في دورة توازى دورة الحياة، ولكنها الحياة الأخرى، الحقيقية، والكتابة تتراوح بين تهميش المجاز لصالح السرد وبين أن يتكون النص من مجازات جزئية: التقنيتان يلاحقان بعضهما البعض لنصل إلى حيوية الكتابة التي تساءل الوجود وتتغياه من زاوية الروح السارية فيه، عبرنا. 
يذكر أن "ريحة ملايكة" صادر عن كتاب "المرسم الإبداعي"، 2009.