ملتقى حنا مينه يناقش الرواية وعلاقتها بالدراما والسينما

صالة دار الأسد للثقافة في مدينة اللاذقية شهدت فعاليات ملتقى الأديب حنّا مينه للإبداع الروائي الذي تقيمه وزارة الثقافة.
الناقد حسام الدين حضور قدم إيجازاً شبه تاريخي لسيرورة الواقعية 
حنا مينه يؤمن بأنًّ الرواية تجربة حياتية، مصدرها ما عاشه الروائي وما رآه

شهدت صالة دار الأسد للثقافة في مدينة اللاذقية أخيرا فعاليات ملتقى الأديب حنّا مينه للإبداع الروائي الذي تقيمه وزارة الثقافة - مديرية الثقافة في اللاذقية، وذلك على مدار ثلاثة أيام ناقش فيها أدباء ونقاد أكاديميون من بينهم: وفيق سليطين، فوزية زوباري، الحرّ غزال، حسام الدين حضور، نذير جعفر، عاطف بطرس، د.لطفية إبراهيم برهم، د.وفيق سليطين، غسان ونوس وغيرهم، العديد من الرؤى والأفكار الروائية المرتبطة بأعمال الروائي حنا مينه خاصة والروائيين السوريين والعربية عامة، إضافة عن الحضور الروائي السوري والعربي في الدراما والسينما.
هنا نستعرض أهم المناقشات التي دارت حولها جلسات الملتقى، ولنبدأ بمداخلة الأديب والسيناريست حسن م. يوسف حيث تطرق لدراما "نهاية رجل شجاع" التي عرضت خلال شهر رمضان عام 1994 وبلغ عدد مشاهديها في مصر سبعين مليون مشاهد، قال "أعترف أنني كُنت مثل معظم الكتاب من أبناء جيلي والجيل الأقدم منه، أنظُرُ إلى التلفزيون بارتياب، وقد وافقت على تحويل رواية حنا مينه "نهاية رجل شجاع" إلى مسلسل من باب حبي له لا من باب حبي للتلفزيون. 
وأضاف: في معالجتي البصرية لـ "نهاية رجل شجاع" قمت بمحاكاة الطبيعة وفق رأي أرسطو في كتابه "فن الشعر" الذي يُنظِّر فيه للدراما، إذ رأيت أن العلاقة بين الرواية والسيناريو يجب أن تكون كالعلاقة بين البذرة والنبتة، فالنبتة تمتص كل ما في البذرة من غذاء ثم تستقل عنها وتلفُظُها كقشرةٍ خاوية، ثم تتابع طورَها الجديد بالاعتماد على نفسِها وبيئتِها الجديدة. صحيح أن النبتة هي امتداد طبيعي للبذرة وتستمد منها كلَّ خواصِها، لكن النبتة تمثل كياناً آخر يختلف كلياً عن البذرة، وهذا ما فعلتُه بالضبط مع رواية حنا مينه. فكما تأخُذ النبتةُ الماءَ والعناصر من التربة، وهي تنتقل من طور البذرة إلى طورها الجديد، كذلك أضفت لرواية حنا عناصرَ ومكوناتٍ جديدة كي تستطيع الروايةُ أن تحيا في وسطِها البصري الجديد.

من المفارقة أن يقلّ حضور الروايات في الدراما السينمائيّة والتلفزيونيّة، مع ازدياد حضور الصورة، وتعدّد القنوات، واستمرار بثّ الكثير منها آناء النهار والليل، وازدياد عدد المسلسلات، وتكرار عرضها مرّات

وتناول الناقد حسام الدين حضور إيجازاً شبه تاريخي لسيرورة الواقعية والأشكال التي أخذتها تاريخياً حتى وصلت إلى الواقعية الاشتراكية، التي أخلص لها حنا مينة منذ بداياته ولم يَحِد عنها، حيث أشار إلى أن الواقعية الاشتراكية تربط ربطاً جدلياً بين الشكل والمضمون، وتضع بذلك أهم المعايير للذوق الفني، والتقويم الجمالي. وقال إن "الشكل الفني أداة تبليغ المضمون الواقعي الصحيح ليس هدفاً بذاته، لكن هذا ﻻ يعني سقوط المضمون الجيد في الشكل الرديء. فالشكل والمضمون في علاقة جدلية متبادلة ﻻ يفقد فيها العمل الفني خاصيته الفنية ويسقط في المباشرة، ويتحول إلى خطاب سياسي. فالواقعية ﻻ تعني التصوير الحسي المباشر المبتذل، بل تخطي حالة الانفعال السطحي العابر، وإيجاد الشروط الضرورية كي يعبر الفن بطريقته الخاصة. فالنشاط الفني يتميز بقدر من الاستقلال النسبي عن الواقع. كما لو أن الروائيين الكبار يولدون كباراً. هذا حال حنا مينة، وهذا حال هاني الراهب، وهذا حال حيدر حيدر. أقصد هنا: المصابيح الزرق، والمهزومون، والزمن الموحش. ثلاثة أعمال رائعة، هي الأعمال الروائية الأولى لأصحابها. 
وأضاف "الروائي لا يخلق عالماً. بل يعمل جاهداً على إقناع القارئ أن ما كتبه قد حدث في الواقع وأنه مجرد ناقل، كتب حنا مينة كثيراً، وأقنع قراءه كثيراً. كثيرون صدقوه: فأسماء شخصيات أعماله ليست غريبة، وصفات أصحابها تنطبق على كثيرين ممن يعرفونهم، أو سمعوا عنهم. أين نجد شخصيات كالطروسي والمرسنلي وسعيد حزوم وغيرهم، في الأدب الروائي السوري. شخصيات حنا مينة حية تتطور ولا تخشى المواجهة مع قوى الطبيعة العمياء، ومع قوى المجتمع التي تبدو كلية القدرة مثل القدر".
وفي مداخلتها "حنا مينة في مرآة ذاته.. تجربته الروائية أنموذجا" قالت د.فوزية زوباري أن حنا مينه يؤمن بأنًّ الرواية تجربة حياتية، مصدرها ما عاشه الروائي وما رآه، ما عاناه وما قاساه، من دون أن تكون هذه المعاناة خالية من الفرح ما دامت تقترن بالكفاح. ويستمدّ الروائي مادته مما ترسبًّ في قاع الذاكرة مما هو سلبي وما هو إيجابي، ما هو موجع وما هو مريح. ويشير إلى أنًّ عالمه الروائي لا يستقيم إلا بالتراكم الذي يعتمد الكثرة من الروايات "فالرواية أو الروايتان أو الثلاث لا تشكل عالماً روائياً إلا إذا استطاعت وبتكثيف أن تحيط بكل ما في المجتمع".
ورأت أن "المعمار الروائي لا يختلف بالنسبة إلى حنا مينه عن المعمار الهندسي سوى في شكل التحضير للعمارة من قبل كل من الروائي والمهندس. يعتمد الروائي التصميم الذي خطط له في ذهنه أولاً ثم تأتي عملية نقل التخطيط الذهني إلى الورق. ويبدأ تصور الحدث الروائي من اللحظة التي يختار فيها الروائي ذلك الحدث الذي يفرض نفسه، ثم يأتي دور استعادة التجربة، والنظر في البيئة التي نبتت فيها تلك التجربة، والدوافع التي أدت إليها، والأسئلة التي تطرحها. وكثيرا ما يستمر التخطيط الذهني لمعمار الرواية حتى النهاية، وكيف ستكون هذه النهاية مفتوحة أم مغلقة، ثم نوعية السياق والزمن وطريقة السرد، بحيث يمدد الروائي الخطوط في الاتجاهات كلها كي تلتقي في بؤرة النهاية. ويؤكد مينه ضرورة المحافظة على وحدة الرواية من خلال إقامة نوع من التوازن الدقيق بين الإفراط في تفصيل المشاهد والصور أو الإقلال منها إلى درجة تضرّ بالمشهد". 

novel
سرد الغائب، وسرد المتكلّم

وقدمت د.لطفية إبراهيم برهم قراءة في رواية "ساعتان.. ساحتان" للكاتب زهير جبّور مشيرة إلى أن الرواية "تقدم سيرةً مضاعفة؛ سيرة ذاتية، وسيرة مكانية لمدينة حمص، بصوته السردي الذي يتجلّى عالياً، ويتحوّل إلى كائن لا نراه، ولكننا نسمعه، ونتتبّع أصداءه التي تهيمن على عالم الرواية بحكاياتها المتعددة؛ لذا يستبدّ بالنصّ، وهو حاضر فيه حضوراً مستمراً، يرفض أن يختفي وراء شخصياته، أو أن يوهم بذلك، لأنه المتصرّف في القول، اللاعب بالسرد، راوي الأحداث، وناقلها، ومفسّرها، وهو، في النهاية، في وضع مريح، يتيح له حرية واسعة للتحرّك وتحديد المسافات بينه وبين مروياته. يبتعد، ويقترب، يرفع صوته، ويخفضه، يضيّق الرؤية، ويوسّعها، لرسم ملامح نصين مكانيين متقابلين: النصّ ــ المكان القديم، والنصّ ــ المكان الجديد، وهما نصّان يحملان وجهتي نظر ساعتين وساحتين متقابلتين، فنرى في حمص مدينتين: قديمة وجديدة، وإن بدت في الظاهر مدينة واحدة، وهما يجسّدان تحوّلات جوهرية عمّدت المال إلهاً للتغيير، ورصدت انعكاس التغيير على بنية الشخصيات والمكان".
أما د.صلاح الدين يونس فقرأ تقانة السرد في روايات عبدالرحمن منيف قال "لم يخف منيف موقفه من اللغة، العربية طبعاً، فهو كأيٍّ من أصحاب الاتجاه القومي العربي، ينظر إلى العربية على أنها "فوق لغة" لما لها من جلال وعمق تراثيين، ولما لها من بعد قومي عريق أصيل، وقد نقل رؤياه للعربية إلى متون رواياته، وكان يُفصح في لقاءاته الصحافية، وكتاباته غير الروائية عن جلال اللغة، وكان يردد: "إن لها جبروتاً خفياً، أو ضمنياً.. وإن العمل فيها يجب أن يؤخذ ضمن سياق متفاعل ومتكامل مع البناء كله، وحتى يكون العمل متكاملاً، تتفاعل مكوناته "سرد، وصف، حوار، شخصيات" كان لا بدّ من اللغة الجامعة المكّونة".
وتابع "بما أن منيفاً كاتب أيديولوجي ينتمي إلى الأيديولوجيا القومية، فقد لجأ إلى الكتابة السردية كاستراتيجية فنيّة، تكشف البعد الأيديولوجي للمواقف والشخصيات والأهداف، وتبين دور كل منها في مشروع التعبير والبناء، ولعبدالرحمن أساليب في السرد تحدد "زوايا النظر" وموقع السارد، ودهاءه في مشاركته الحدث، وفي صورته، وفي مواربة الحقيقة، ووصفه لها، وأما زاوية النظر فهي المنظور الذي تُسرد القصة من خلاله، وتحددها طبيعة السارد، وأهم أساليب عبدالرحمن منيف في الأنماط السردية: الأسلوب الأول: سيطرة الراوي الواحد.. ويمكن تصنيف عمليْه: "قصة حب مجوسية" و"حين تركنا الجسر" في هذا السياق، فالراوي يهيمن على الروايتين هيمنة تامة، ويبدو الشخصية المركزية فيهما، ومن خلاله تظهر الأحداث وترتسم النماذج البشرية، وفي رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" يهيمن الراوي على القسم الأعظم من الرواية، ومن خلاله تظهر العلاقة بين الداخل والخارج، ويظهر الزمن الغربي مخترقاً الشرق عبر وسيلتين: الكادر العلمي المتعلم في الغرب والقطار الذي يتجاوز حالة السكون الشرقية بالحركة الميكانيكية الغربية التي تجاوزت عهود النمط القارّ. "خرْق الحركة للسكون". 
وفي "قصة حب مجوسية" تسيطر فكرة الجوع الجنسي على الراوي، بلغته وبعقله وبتصرفاته، ومن خلال استئثار الفكرة الجنسية به، يستأثر هو بالسرد، ولا يسلمه لغيره، ويستأثر بمصير الشخصيات وبتسلسل الأحداث، وكأنه الحيُّ الوحيد في القصة. وفي "حين تركنا الجسر" يبدو البطل المركزي زكي النداوي هو الوحيد الذي يُري القارئ هزيمة 1967 من خلال وعيه هو، وارتداداتها عليه وحده، ولم يُظهر آثارها النفسية على المجتمع العربي كأفراد وكمؤسسات، وإنما أظهرها على ذاته، وكأنها هزيمته وحده، وما كان هذا ليكون لولا أن النداوي استأثر بالسرد كلية، فصار الحدثُ المركزيّ وهو حرب 1967 حدثاً ذاتياً، أخرجه الراوي من عموميته إلى خصوصيته، ولم يتلق القارئ صوتاً غير صوت الراوي.
وتساءل الناقد والروائي نذير جعفر في ورقته: ما دلالة اختيار صيغة الراوي بضمير الغائب، أو المتكلّم، أو المخاطب، في السرد، والاقتصار على إحداها، أو الجمع فيما بينها، في عمل روائي واحد؟ وما الفرق بين صيغة وأخرى من هذه الصيغ؟ وهل من وظائف جمالية مختلفة لكل منها؟ وقال "تلك الأسئلة وغيرها تطرح نفسها عند تحليل عناصر الخطاب الروائي ومحاولة الكشف عن آليات اشتغالها وتحقّقها الفنّي. ويبدو الاهتمام بالإجابة عنها ما زال محدودا في المنجز النقدي العربي، ولا يتجاوز بعض الاجتهادات المتفرّقة هنا وهناك، التي لم تظهر حتى الآن تحت عنوان مستقلّ بها! لقد بات التمييز بين المؤلف الحقيقي والراوي ـ أيّاً كانت صيغته ـ أمرا معهودا وضروريا في المقاربة النقدية، كما بات من الضروري التمييز بين صيغ الضمير المختلفة التي يتستّر وراءها الرواة. فكل صيغة توجّه السرد وراويه في مسار، وتشي بهذا القدر، أو بذاك، بقربه، أو ببعده، أو بمطابقته لصوت المؤلف الحقيقي، كما تشي بوجهة نظره عن العالم من حوله".
وحاول جعفر تقديم قراءة أوليّة لنماذج من الرواية السورية الوقوف على صيغ: سرد الغائب، وسرد المتكلّم، وسرد المخاطَب، وسرد الأصوات المتعدّدة، ودلالاتها وجمالياتها، عبر ارتباط كل منها بشكل حضور الراوي.
وتناولت العديد من القراءات علاقة الدراما والسينما بالرواية ومنها قراءة غسان كامل ونوس "الرواية والفنون البصريّة" الذي أوضح أن نصوصا روائيّة أجنبيّة وعربيّة عديدة حظيت بتحويلها دراميّاً إلى السينما، ولاحقاً إلى التلفزيون، ونال بعضها نصيباً وافراً من العرض والشهرة، ومنها روايات لأديبنا الكبير حنّا مينة، الذي يحمل هذا المهرجان اسمه، وغيره من الروائيّين. لكنّ هذا الأمر تضاءل في السنوات الأخيرة إلى حدّ كبير؛ كما تناقص حضور السينما ذاتها، وتضاعف حضور الشاشة الصغيرة. وظهرت عروض تحمل اسم المؤلّف المخرج؛ أي أنّ صاحب الفكرة والموضوع والمشروع ربّما، كتب ما سيخرجه، وتعدّدت الأسماء في هذا المجال، ووصلت حتّى التلفزة. ومن المفارقة أن يقلّ حضور الروايات في الدراما السينمائيّة والتلفزيونيّة، مع ازدياد حضور الصورة، وتعدّد القنوات، واستمرار بثّ الكثير منها آناء النهار والليل، وازدياد عدد المسلسلات، وتكرار عرضها مرّات، وصارت لدينا قناة خاصّة بالدراما، ومواسم محدّدة تحتشد بالعروض الأولى، وظهر كتّاب دراميّون كثر؛ قليل منهم أدباء، لكنّهم يعرفون الكار وعلاقاته، وأسواقه، التي سيعرض فيها، والظروف والأوقات والجمهور المتوقّع.. وقد أدّى هذا، في رأيي، إلى التأثير سلباً على النصوص والعروض؛ لأنّ الغاية ليست فنّيّة خالصة لوجه الإبداع! كما هي لدى المبدعين الحقيقيّين، الذين يكتبون من وحي إلهامهم ورؤاهم وأفكارهم وفرادتهم!