منطقة الاعراف العراقية بين اميركا وايران؟

في الحرب الباردة الدائرة بين واشنطن وطهران، لا مكان لميليشيات عدم الانحياز.

في منتصف القرن الماضي تبنت الهند ومصر ويوغوسلافيا ومعها دول اخرى مبدأ عدم الانحياز في الحرب الباردة التي نشبت بين القطبين الاميركي والسوفيتي انذاك. الا ان التطورات لاحقا دفعت تلك الدول للاصطفاف مع احد هذين القطبين ليثبتوا صعوبة اتخاذ مواقف حيادية في الازمات بين قوى اكبر.

فهل ستتمكن الحكومة العراقية والاحزاب الشيعية من ممارسة المواقف المزدوجة ذاتها التي واظبت عليها لغاية الان في العلاقة بين اميركا وايران، خاصة بعد تصاعد ملف الازمة الاميركية الايرانية بوضع الحرس الثوري على قائمة الارهاب الاميركية؟ وكيف يمكن لفصائل مسلحة شيعية تدعي الحكومة العراقية بانها منضوية في المؤسسة العسكرية العراقية وتأتمر بأوامر القائد العام للقوات المسلحة ان تتخذ مواقف سياسية تتناقض ومواقف الحكومة العراقية؟

ففي حين تؤكد الحكومة العراقية على ابعاد نفسها عن الازمة الايرانية الاميركية، فان مليشيات الحشد اتخذت موقفا مدافعا عن الموقف الايراني في خطوة تكذب كل ما قيل عن ان هذه المليشيات تخضع للحكومة العراقية.

ان موقف هذه الفصائل المسلحة يتعارض مع الدستور العراقي الذي ينص على ابعاد المؤسسة العسكرية عن المشاكل السياسية ناهيك عن انها مشكلة لا تتعلق بالعراق بل بدولة اجنبية.

لقد واصلت الاحزاب الشيعية العراقية خلال الخمسة عشر سنة الماضية لعب سياسة مسك العصا من الوسط في ازدواجية التعامل بين اميركا وايران، فاميركا عرابة العملية السياسية والمشرفة عليها وصاحبة الفضل في جلب هذه الاحزاب للحكم مثلت لهم قدرا محتوما لا بد لهم التعامل معه، اما ايران فتربطهم بها علاقات تاريخية (عقائدية وسياسية) وتعتبر عمقهم الاستراتيجي وسط محيط من السنة في المنطقة.

ما ساعد على نجاح الاحزاب الشيعية في توازن علاقاتها بين الطرفين هو تباين توجهات كل من ايران واميركا ازاء العراق، وتباين مصالحهما فيه. فبينما ركزت ايران على تحقيق سيطرتها السياسية والعقائدية فيه، ومن ثم سيطرتها العسكرية والامنية عليه (بعد مرحلة داعش)، اهتمت اميركا بالخطوط العريضة للسياسة الخارجية العراقية وكذلك بالنفط العراقي. اما الناحية العسكرية والامنية فلم تكن من اولويات السياسة الاميركية خاصة في عهد اوباما (بدليل الانسحاب الاميركي من العراق بسلاسة في 2011). الا ان الاهتمامات الاميركية تجاه العراق تغيرت بعد مجيء ترامب وتغير المعادلات الامنية والسياسية في المنطقة بعد مرحلة داعش، مما ادى الى ان تطابق الاولويات الاميركية مع اولويات ايران في المنطقة.

يتكون المشهد السياسي العراقي من حلقات متداخلة يحتم على المراقب دراستها بدقة كي يتمكن من فك شفراته وتحديد احتماليات تطوراته.

1-الحكومة العراقية المتمثلة برئاسة الجمهورية والبرلمان ورئاسة الوزراء تمثل الجانب الرسمي في العراق وتشكل الاحزاب الشيعية فيها الاغلبية بكل ما لديها من علاقات وثيقة مع ايران (كما اسلفنا). اريد لهذه المؤسسة الرسمية (وبتقصد) ان لا تمتلك اية تأثير او اية ملامح سياسية تستطيع التحرك من خلالها خاصة بعد تشكيل فصائل مسلحة موالية لايران في العراق، بل ان دورها لا يتعدى دورا تشريفيا في تصريف الامور العامة للبلاد دون ان تمتلك ادوات القرار السياسي الحقيقي. ومع عدم جدوى هذه المؤسسة وهلاميتها الا انها استمدت ديمومتها من امرين وهما:

الاول.. وجود العامل الاميركي الذي يعتبر عراب العملية السياسية العراقية، وتمثل الحكومة العراقية بالنسبة له القناة الوحيدة التي تتمكن من خلالها اميركا التواصل رسميا مع الشان العراقي. لذلك فان اضعاف هذه الحكومة هو اضعاف للتأثير الاميركي على الساحة العراقية وتصب في المصلحة الايرانية.

الثاني.. اعطاء العراق وجها حضاريا امام المجتمع الدولي كونه دولة ذات مؤسسات، والحقيقة ان هذه المؤسسة هو غطاء تتحرك من خلاله الاطراف الفاعلة والمؤثرة في الشأن العراقي والحكام الفعليين له.

2-اما الدور المؤثر والفعلي في العراق سياسيا وامنيا فهو لمليشيات وفصائل مسلحة تابعة لتشكيلات سياسية سيطرت بشكل كامل على مجمل النواحي السياسية والامنية في العراق خاصة بعد ظهور داعش، وتعتبر صاحبة الامر والنهي في القرار العراقي، وبسبب السيطرة الايرانية المباشرة على هذه المليشيات فان الدور الايراني في العراق تصاعد بشكل كبير.

استغلت ايران تأثيرها في الاحزاب الشيعية العراقية المشاركة في الحكومة العراقية وسيطرتها على الفصائل الشيعية المسلحة في مسايرة المواقف الاميركية في العراق، فمن جهة دفعت الحكومة العراقية لاتخاذ مواقف دبلوماسية محايدة بينها وبين اميركيا، ومن جهة اخرى دفعت بالفصائل المسلحة الشيعية لتبني مواقف مطابقة لمواقفها بشكل علني. وقد حمت الحكومة العراقية هذه المليشيات بتأكيداتها على انها جزء من المؤسسة العسكرية العراقية وخاضعة لها. وبذلك نجحت ايران من خلال هذه المعادلة تحقيق الكثير من الانجازات السياسية والامنية على حساب التأثير الاميركي.

في تصورنا فان اميركا ستتعامل مستقبلا مع العراق على مبدأ (وداوها بالتي كانت هي الداء) في الضغط على الحكومة العراقية في لتخاذ مواقف حازمة تجاه الفصائل المسلحة هذه، وتضعها امام امتحان صعب في اتخاذ احد هذين الموقفين، فاما ان ترفض الطلب الاميركي وتتخلى عن حياديتها الظاهرية لتعلن عن انحيازها الكامل للمشروع الايراني في المنطقة وبذلك تتطابق مع موقف الفصائل نفسها.. او انها سترغم على تنفيذ الاوامر الاميركية في قطع التمويل عن الفصائل المسلحة من الموازنة العراقية وحظر الكثير منها بل وتفكيكها. وفي الحالتين ستكون في موقف لا تحسد عليه.