من راديكالي إلى إسلامي متنفذ: قضية حزب الدعوة في العراق

بسبب افتقاره لتجديد فكري جدي حزب الدعوة غير قادر على صياغة إطار عمل حكم واضح مستند على مبادئه التأسيسية الدعوة وافق على ميكانيكية الديمقراطية لكن ليس مبررات الديمقراطية الفلسفية الذي ما يزال الحزب يعتبرها افكار علمانية وغربية.

 بقلم: حارث حسن

بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وسقوط صدام حسين، برزت أحزاب اسلامية شيعية كلاعبين سياسيين رئيسين في البلد. لعبت هذه الاحزاب أدواراً رئيسية في صياغة العملية الدستورية والسياسية والديناميكية الداخلية للسياسة العراقية. حزب الدعوة كان من أقدم هذه الأحزاب حيث رجع معظم قادته للبلد عام 2003 بعد سنوات قضوها في المنفى. بين عامي 2005 و 2018 تولى ثلاثة من قادته، إبراهيم الجعفري ونوري المالكي و حيدر العبادي منصب رئيس الوزراء. وبانتقال حزب الدعوة من حزب معارض الى السلطة فان تعهده ببناء دولة اسلامية قد اضمحل وكان لتحديات الحكم وسياسات المحسوبية عاملاً كبيراً في صياغة أولوياته الجديدة.

ثلاثة عوامل تحسب على هذا التحول. الأول هو ظهور العامل الاثني الطائفي كاطار عمل مهيمن للتمثيل والتحشيد السياسي. أجبر هذا حزب الدعوة التركيز على مسألة الهوية أكثر من التركيز على الايديولوجية. العامل الثاني كانت المطالب الانتخابية التي أدت بالحزب لأن يبحث عن قاعدة انتخابية أوسع وذلك بإعادة صياغة هويته السياسية وتطبيق مبدأ المحسوبية السياسية. والعامل الثالث كانت طبيعة العراق كبلد صاحب ثروة حيث تتكالب الأحزاب السياسية حول توزيع الغنائم بدلاً من تنافسها فيما بينها على وضع برامج سياسية وآيديولوجية.

سقوط نظام حزب البعث في العراق أدى الى توسع التناحر الطائفي بين السنة والشيعة. دفع هذا الاسلاميين الشيعة للتركيز على هوياتهم الطائفية بدلاً من المشتركات الأيديولوجية مع الاسلاميين السنة. تحالفات حزب الدعوة تعتبر مثالاً واضحاً لما أفضى اليه هذا التصرف. في أغلب الأحيان كان الحزب يعقد تحالفات مع مجاميع شيعية منافسة مثل المجلس الاسلامي الاعلى للعراق أو حركة التيار الصدري أو حتى مجاميع شيعية غير اسلامية مثل المؤتمر الوطني العراقي التابع لأحمد الجلبي، في حين يتجنب التحالفات مع مجاميع اسلامية سنية مثل الحزب الاسلامي العراقي.

مع ذلك فان التحول نحو السياسات المستندة على الدين والمذهب لم يظهر فجأة. كان ذلك حصيلة عدة تحولات بضمنها شعور متنامي بالهوية الشيعية خلال فترة بقاء الحزب بالمنفى. في بادئ الامر تحدى الدعوة الدولة العلمانية والأفكار العلمانية مفضلاً بذلك دور ديني مركزي في النظام السياسي الاجتماعي. كان قادة الحزب ملهمين بتنظيمات إسلامية سنية مثل الاخوان المسلمين وحزب التحرير وكذلك بكتابات مفكرين اسلاميين سنة مثل سيد قطب وحسن البنا وأبو الأعلى المودودي. كان الهدف المنشود لكل من الاسلاميين السنة والشيعة هو تأسيس دولة اسلامية مبنية على طريقة ونهج كل مجموعة بذاتها.

من ناحية أخرى كون مؤسسي حزب الدعوة ينحدرون من عوائل دينية تقية فانهم لم يتمكنون من تجاهل خصائص التشيع العقائدي خصوصا وإنهم احتاجوا لإضفاء صفة الشرعية لأنفسهم ضمن مكونهم. لقد سعوا لبناء شراكة مع المرجعية الشيعية في النجف مركز التعليم الديني الشيعي وذلك لضمان دعم أكثر. ظهر ذلك بالدور الجوهري الذي لعبه، آية الله محمد باقر الصدر، وهو رجل دين شيعي أصبح مرشد الحزب والمفكر الرئيس له. حاول الصدر في كتاباته تمثيل الاسلام كبديل لليبرالية والشيوعية مركزاً في الوقت نفسه على دور المرجعية الشيعية في القيادة السياسية.

الحركات الإسلامية الشيعية العراقية تأثرت على نحو كبير بالثورة الإيرانية. وبما أن التوجه الاسلامي يركز على إضفاء صفة الدين على الهوية الوطنية أو الاقليمية فان الاسلاميين غير الايرانيين كانوا قادرين على تحديد هويتهم مع الدولة الاسلامية الايرانية. تحديد الهوية هذا عززه صراع الاسلاميين الشيعة مع النظام السني الحاكم في العراق، خصوصاً بعد حملته القمعية الموجهة ضدهم. استهدف النظام أيضا كبار رجال الدين مثل الصدر، الذي كان يؤيد قيادة آية الله الخميني بشكل متحمس.

كثير من أعضاء حزب الدعوة هربوا من العراق في أعقاب ذلك معززين صلتهم بشعور مظلومية الشيعة. في المنفى سعوا هم وأعضاء من المجلس الاسلامي الاعلى، الذي عرف بعد ذلك بالمجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق، سعوا لكسب حلفاء لهم من بين مجاميع غير اسلامية خصوصاً بعد فشل الانتفاضة ضد النظام العراقي في عام 1991. انشأوا بعد ذلك علاقات عمل مع وطنيين كرد واسلاميين سنة وحتى ليبراليين من بين مجاميع أخرى. وفي مؤتمر لندن للمعارضة العراقية في 2002 اتفقت هذه المجاميع أن عراق ما بعد صدام حسين يجب أن يكون ديمقراطي تعددي.

عقب سقوط النظام في 2003 انتدب ميزان القوة الجديد انتقاله من الاسلامية الثورية الى البراغماتية. كان على الاسلاميين الشيعة ان يتعايشوا مع حقيقة الاحتلال الاميركي ويوافقوا على أن لا يصيغوا الاحكام السياسية الجديدة للعراق وفق مشيئاتهم. صناع السياسة الاميركان ومجاميع المعارضة في المنفى كانوا قد اتفقوا على رؤية للعراق بكونه مقسم لطوائف عرقية واثنية. هذا دعامهم للتركيز على بناء إجماع بين المجاميع النخبة لتشريع النظام الجديد لهم. بالنسبة للإسلاميين الشيعة كان ذلك مرغوباً ومعيقاً في الوقت نفسه. كان مرغوباً لأن 60% من نفوس العراق هم من الشيعة حيث يسمح لهم باحتكار تمثيل سياسي لأكبر مجموعة طائفية في البلد، أما كونه معيقاً فذلك لأنه أجبرهم لدخول عملية طويلة من المساومة مع ممثلين سياسيين آخرين.

في عام 2005، حزب الدعوة والمجلس الاسلامي الأعلى وأحزاب شيعية أصغر شكلوا فيما بينهم، التحالف العراقي الموحد، وهو تحالف فاز بأغلبية في المجلس لكتابة دستور جديد. وقد مهدوا بالاشتراك مع أحزاب كردية الأسس التي يستند عليها نظام سياسي مبني على تشكيل دولة اسلامية ولكنها ممثلة بالاساس على طوائف أثنية ودينية ضمن سياق فدرالي تعددي.

هذا الهدف انعكس في الدستور الجديد. الفقرة 1 وصفت العراق على انه " فدرالي... جمهوري ممثل برلمانيا و ديمقراطي. العبارة " اسلامي " لم تستخدم. وما يخص دور الاسلام في التشريع، المادة 2 وصفته على انه الدين الرسمي للدولة ومصدر رئيسي للقوانين على نقيض كونه " المصدر " الرئيسي بأل التعريف. مع ذلك فانه اشترط أن لا قانون يمكن ان يناقض تعاليم الاسلام او مبادئ الديمقراطية والحريات الاساسية. كان هذا حلا وسطا بلاغيا لأنه فشل في تصوير حالة تتحدى فيها بنود اسلامية الديمقراطية حريات اساسية.

اشترطت الفقرة 2 بان " يضمن الدستور الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي والحقوق الكاملة لحرية المعتقد الديني والممارسات الدينية لكل الأفراد مثل مسيحيين و إيزيديين و صابئة مندائيين. " ولهذا فإنه بالنسبة للأحزاب الاسلامية الشيعية الرجوع خطوة عن الاديولوجية الاسلامية كان بمثابة أمر مفروض عليهم لاشتراكهم بنظام سياسي تعددي يتطلب منهم مناشدة قاعدة انتخابية أوسع مما كان عليه الحال في السابق.

التحول بعيداً عن الفكر الاسلامي لم يكن سهلاً بالنسبة للاسلاميين الشيعة العراقيين حيث بقي مفهوم الحكم الاسلامي موضوع جدل انفعالي. بالنسبة للاسلاميين العراقيين كان هناك توترا بين توجههم الديني لقيادة ايران وهويتهم الوطنية العراقية. أدى هذا الى انقسام حزب الدعوة في المنفى و استمراره بتأثيره على الصراعات الشيعية الداخلية، حيث تجسد ذلك بالانقسام الحالي داخل حزب الدعوة بين جناح المالكي الذي أصبح أكثر قرباً لإيران وحلفائها، وجناح العبادي الذي اتجه نحو بناء روابط أفضل مع الغرب.

في محاولة لأن يبدو ما وراء النموذج الإيراني وهيمنة الحرس الثوري الإيراني على الاسلاميين الشيعة، بدأ بعض ناشطي ومفكري الحزب بإعادة تقييمهم لتأسيس دولة إسلامية. على سبيل المثال تخلى رجل الدين اللبناني البارز، محمد مهدي شمس الدين، الذي ساند حزب الدعوة في سنواته الأولى، تخلى عن دعواته لتأسيس دولة مستندة قانون إسلامي وبدأ يفكر بالديمقراطية كأفضل نموذج للحكم. مع ذلك وبسبب افتقاره لتجديد فكري جدي، كان حزب الدعوة غير قادر على صياغة إطار عمل حكم واضح مستند على مبادئه التأسيسية. كما صف ذلك أحد المراقبين للحركات الاسلامية العراقية بقوله " الدعوة وافق على ميكانيكية الديمقراطية لكن ليس مبررات الديمقراطية الفلسفية الذي ما يزال الحزب يعتبرها افكار علمانية و غربية." وبعكسه لهذه المعضلة ذهب كثير من أعضاء الحزب للبحث عن موافقة من علماء دين قبل الدخول في انتخابات أو القبول بمناصب في الحكومة العراقية.

سعى قادة الحزب لإيجاد صيغة يتمكنون من خلالها الجمع بين معتقداتهم الأيديولوجية ودورهم الجديد كسياسيين في بلد مقسم طائفياً عرقيا. لقد ادركوا انهم بتمسكهم بفكرهم سيقوض جهودهم للاستحواذ على شرعية أوسع التي كانت ضرورية لبقائهم السياسي. هذا يفسر لماذا خاض المالكي للفترة من 2006 الى 2014 والعبادي رئيس الوزراء للفترة ما بين 2014 و 2018 حملاتهم الانتخابية عبر تحالفات اشتملت على حلفاء غير اسلاميين تبنوا نبرة وطنية.

في الوقت نفسه، وبسبب انقسامات العراق الطائفية وتأثيرها على الدوائر الانتخابية السياسية، لم يكن الرجلين راغبان بالتخلي عن التوجه الإسلامي والهوية الطائفية وهي وسائل مهمة للحفاظ على دوائرهم الانتخابية الأصلية. اختاروا البديل بين النهج الاسلامي والوطني اعتمادا على الترتيب السياسي. حتى عندما توجها لخوض منافسات انتخابات عام 2018 البرلمانية، لم يتخلَ المالكي أو العبادي عن عضويتهما في حزب الدعوة.

نُشر في مركز كارنيغي للشرق الأوسط