من غزة إلى جنوب لبنان.. سرديات الانتصار الإلهي

ما يُسميه محور المقاومة بحرب المشاغلة سواء في لبنان أو العراق ووصولاً إلى اليمن، لم تكن لها نتائج واقعية على الأرض في غزة.

في حرب غزة وما سُمي بجبهات الإسناد، دأب البعض على الترويج لجُملة من المصطلحات الشعاراتية، بغية تغير الحقائق وتزييفها بما يناسب الخطاب السياسي والإعلامي لرافعي شعار تحرير فلسطين، من ضمن ذلك، ثمة مصطلحات على شاكلة "فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها، والإنتصار الإلهي، وإسرائيل هُزمت ومحور المقاومة قادر على إقتلاعها"، وغيرها الكثير من المصطلحات التي اعتمدت منطق الشكل دون المضمون. لكن كل تلك المصطلحات الشعاراتية لن تغير من حقيقة الوقائع على الأرض، كما أن تسويق الأوهام لن يُلغي حقائق القتل والتدمير والتهجير التي يتعرض لها الفلسطينيين. في المقابل فإن النظر بعين الرضى من قبل "محور المقاومة ومؤيديه" لِما تنقله الصحافة الإسرائيلية عن انقسامات داخلية وتدهور المعنويات، لا يُعوض زوال قرية وتشريد سكانها سواء في غزة أو جنوب لبنان، ولا يعني إطلاقاً بأن إسرائيل هُزمت أو المقاومة انتصرت.

باكراً توضحت حقيقة الأهداف الإسرائيلية لـ الحرب التي تخوضها في غزة، إذ بدا واضحاً بأن تقزيم مساحة قطاع غزة عبر حزام أمني يبتلع أجزاء واسعة من القطاع، ثم تقطيع أوصال القطاع وعزل مدنه عن بعضها البعض، كل ذلك مع دمار ممنهج، بغية إنهاء الوجود الفلسطينيين وحصرهم ضمن مربعات جغرافية غير صالحة للعيش. في المقابل فإن الحديث عن إزالة الأنقاض عند نهاية الحرب، سيحتاج إلى سنوات طويلة، ورغم ذلك فإن مخطط التدمير يتواصل باستهداف بقايا المجمعات السكنية. وقد أُدرجت رفح آخر مدن القطاع على لائحة التدمير، تحت ذريعة استكمال القضاء على قدرات حماس العسكرية وتصفية قياداتها.

ما يحدث في غزة هو تطهير عرقي. فأعداد الضحايا في ارتفاع مستمر، والموت يحاصر غالبية الفلسطينيين بسبب خروج غالبية مستشفيات القطاع عن الخدمة، فضلاً عن مئات آلاف المهجرين الذين تدمرت منازلهم، وباتوا أمام حتمية اللجوء إلى الدول المجاورة. كل هذه الوقائع لا تتسق وخطاب أن إسرائيل هُزمت، أو أنها فشلت في تحقيق أهدافها. صحيح أن الجرائم الإسرائيلية حركت الرأي العام العالمي، وأحدثت هزة في وجدان الشعوب، وحيّدت إلى حد ما السرديات الإسرائيلية، وأن إسرائيل تدافع عن نفسها ضد القتل والإرهاب، لكن ذلك يبقى ضمن تأثيرات محدودة، طالما بقي العدوان على الفلسطينيين، وبقيت آلة القتل الإسرائيلية تعمل ليل نهار على إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم.

بهذا المعنى فإن جُزئيتي حالة الإنكار وبيع الأوهام، كانت حاضرة وبقوة في ما يتعلق بجنوب لبنان. فالكثير من القرى الجنوبية حولها القصف الإسرائيلي إلى ركام، وأقامت إسرائيل من خلال هذه القرى المُدمرة حزاماً أمنياً، ما دفع الأهالي إلى مغادرة قراهم والنزوح إلى أماكن لا يطالها القصف الإسرائيلي. وهنا يتجسد الخطاب السياسي والإعلامي الذي يسخف ما حدث، عبر سردية أن الصمود والمباني المدمرة هم ركائز الانتصار على العدو، وفي هذا تغييب للحقائق وازدراء بما أصاب أبناء الجنوب من كوارث، تزامناً مع الترويج لحالة الصمود، وأن التهجير أيضاً طال المستوطنات الشمالية، ويكفي الحديث عن الصواريخ النوعية والمسيرات الإنقضاضية، لكنها أسلحة لم تتمكن من حماية الأهالي ولم تمنع آلة القتل الإسرائيلية من تدمير منازل الجنوبيين.

ربطاً بما سبق، فإن مُنظري ومُحللي المحور، عملوا على تكريس الخطاب السياسي والإعلامي الواهي، عبر تمجيد أداء المقاومة، والقول بأنها حتى اللحظة حافظت على استمرار جبهة الجنوب بإسناد غزة؛ ورغم الإسناد وإمطار المستوطنات الإسرائيلية بآلاف الصواريخ، إلا أن ذلك لم يدفع الإسرائيليين للاستسلام، أو إجبارهم على وقف إطلاق النار في غزة!

ما يُسميه المحور بحرب المشاغلة سواء في لبنان أو العراق ووصولاً إلى اليمن، لم تكن لها نتائج واقعية على الأرض، ولم يتحقق أي تأثير أو فاعلية في سياق حماية الفلسطينيين، لتكون بذلك حرب المشاغلة تجسيد حقيقي لمشاريع إقليمية أكبر مما يحدث في غزة. هي مشاريع يُراد منها حصد النقاط وتعزيز الإستثمارات ونسج معادلات تتناسب والواقع الاقليمي الجديد، مع إستمرار الخطاب الإعلامي عبر تمجيد الإنتصارات وهزيمة إسرائيل ومنعها من تحقيق أهدافها.

مع استمرار الترويج "لـ سرديات الإنتصار الإلهي"، نُقل عن رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري بأن الحرب الدائرة في الجنوب هي من دون أفق، كما عبّر بري عن مخاوفه حيال الدمار الهائل، وتخوف من أن ظروف حرب عام 2006 لجهة إعادة الإعمار لن تتكرر، فهذا الإقرار بما آل إليه الوضع ألا ينبغي أن يُحمّل المتسبب به المسؤولية السياسية والأخلاقية؟