مهرجان كناوة يسدل الستار على تجربة موسيقية وروحية استثنائية

منظمو المهرجان يضربون موعدا جديدا للجمع بين أساطير موسيقى كناوة ونجوم الساحة العالمية والمواهب الشابة الصاعدة في مدينة الرياح.

الصويرة (المغرب) - بعد ثلاثة أيام من التمازج الفني والحوار الثقافي، عاش خلالها جمهور الصويرة تجربة موسيقية وروحية استثنائية، عابرة للحدود والأنماط، أسدل الستار، السبت، على فعاليات الدورة السادسة والعشرين لمهرجان كناوة وموسيقى العالم.

وتستضيف الصويرة المطلة على المحيط الأطلسي، كل عام هذا المهرجان الموسيقي الذي يتجاوز الأنواع والحدود، بشكل تتحول معه المدينة وتنبض أزقتها بالحياة، وتصبح ساحة مولاي الحسن الأسطورية فضاء تتردد فيه إيقاعات "القراقب" والأصوات المقدسة للمعلمين.

وفي قلب هذا المهرجان، تنبض موسيقى كناوة بقوة الوحدة والتلاقي، مرسية جسرا قديما يربط بين الأرواح، عبر مزج التأثيرات الأفريقية والعربية-الأمازيغية والحديثة. هذا المزيج الصوتي ليس مجرد تراث فحسب، بل هو احتفال حي بتعدد الهويات وتنوع الإنسانية.

وقد كرست دورة هذا العام هذا التوجه عبر برنامج متنوع جمع بين أساطير موسيقى كناوة، ونجوم الساحة العالمية، والمواهب الشابة الصاعدة، في تحالف بين الأصالة والحداثة يعكس حيوية الثقافة المغربية وقدرتها على التجديد دون نسيان الجذور.

ويعكس هذا التنوع في التعبير الفني تاريخ مدينة الصويرة نفسها، وهي مدينة متعددة الثقافات التي شهدت تعايش اليهود والمسلمين والمسيحيين والمجتمعات الأفريقية جنبا إلى جنب، منشئة نسيجا اجتماعيا غنيا وشاملا. وبذلك، يواصل المهرجان تكريس إرث الانفتاح والضيافة.

كما يصبح السكان أنفسهم جزءا فعالا من هذا الاحتفال، يستقبلون الزوار والفنانين بحرارة وحفاوة. ويخلق المهرجان جسرا حيا بين التقاليد الشعبية والحداثة الحضرية، ويدعو الجميع لمشاركة لحظة فريدة من التآلف.

وقد عرفت هذه الدورة إقبالا جماهيريا واسعا، حيث استمتع الزوار بعروض موسيقية راقية جمعت بين روح الكناوة العريقة وتنوع الإيقاعات العالمية، ما جعل من مدينة الرياح قبلة لعشاق الأصالة الموسيقية وفضاء للتفكير في قضايا الهجرة والحركيات البشرية وعلاقتها بالديناميات الثقافية.

كما شكل المهرجان وعروضه المتنوعة والمتميزة، فرصة لاكتشاف المدينة العتيقة وفضاءاتها الساحرة، بما تحمله من إرث تاريخي غني وبنى تحتية ثقافية، فضلا عن مؤهلاتها السياحية اللافتة.

وأطلت الفنانة الكناوية هند النعيرة ابنة مدينة الصويرة، في واحدة من أبرز لحظات المهرجان، على جمهور منصة مولاي الحسن بأداء أخاذ تميز بعفويته القوية وعمقه الروحي، حيث ألهبت هذا الفضاء التاريخي بعرض باهر مزج بين العذوبة والقوة.

ومع كل نغمة وكل حركة، أكدت هند بكل ثقة ورقي، مكانتها كأحد أبرز الوجوه النسائية في مشهد الكناوة المغربي المعاصر، مجددة الوصل بين الموروث والحداثة، ومبرزة قدرة الفن على كسر الحواجز وإعادة تشكيل الصور النمطية.

وقالت هند النعيرة في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء إن "المهرجان ساهم كثيرا في تطوير فن كناوة عبر المزج الموسيقي، لأنه بالإضافة إلى جمعه للمعلمين من جميع أنحاء المغرب، فهو يستضيف فنانين عالميين كبار مثل ماركوس ميلر وغيره من الموسيقيين المعروفين الذين شاركوا مع معلمي الكناوة في عروض ومزج موسيقي، فهذا الحدث الفني حاول أن يخرج فن كناوة من إطاره التقليدي، وأن يخلق هذا التلاقح الموسيقي، وهكذا بدأ التحول، ما ساعد في إيصال هذا الفن العريق إلى العالمية، فبرز معلمون كبار وتألقوا بفضله".

وأضافت "أوجه تحية كبيرة للقائمين على المهرجان، فهم الذين منحونا الفرصة لإبراز موسيقانا والتعريف بأنفسنا أمام الجمهور. رغم أنني أحيي عروضا على مسارح أخرى، بل وأشارك في مهرجانات عالمية كبرى، فإن لهذا المهرجان طابعا خاصا ولمسة مميزة بالنسبة إلي. إنه شرف كبير أن أكون قد شاركت في هذا المهرجان".

ومن لحظات الإبداع الجماعي، شهدت منصة مولاي الحسن كذلك عرضا موسيقيا مذهلا جمع المعلم محمد بومزوغ وأنس شليح من المغرب، إلى جانب موسيقيين عالميين من فرنسا وكوت ديفوار، من ضمنهم تاو إيرليش، مارتن غيربان، وكوينتن غوماري وعلي كايتا.

وتميز العرض بانصهار آلات "الكمبري" و"القراقب" مع البلافون، والدرامز، والساكسفون والبوق، لينثر هذا المزج الفني الدهشة الموسيقية على الجمهور بتوليفات صوتية متنوعة وارتجالات جريئة.

وأمتعوا الحاضرين بأغان مبهرة تمتح من عمق التراث الكناوي وتنسج جمالياتها بإبداع معاصر، ليجد الجمهور نفسه منساقا، طواعية، إلى ترديدها مع الفنان المتألق محمد بومزوغ الذي لم يكن مجرد مؤد، بل أشبه بساحر موسيقي بث سحر كناوة على كل من حضر، بأسلوبه المتفرد، وصوته الآسر، وإيقاعه الذي أشعل الفضاء وأربك الحدود بين الخشبة والجمهور.

ومع تصاعد النشوة الموسيقية، التحقت الفنانة هاجر العلوي بالمجموعة في لحظة انصهار فني وجماهيري، لتضيف إلى العرض لمسة أنثوية مشبعة بالإحساس والقوة، فتألقت بأدائها المميز، وهي تنقل الأغاني من الريبرتوار الكناوي إلى طبقات جديدة من التعبير والإيحاء.

وشهدت الليلة ذاتها لحظة خاصة مع الفنان عمر حياة الذي بعذوبة صوته وتواصله الصادق، نجح في خلق لحظة وجد جماعي على منصة مولاي الحسن، استحضر خلالها الأحاسيس والحنين، واندمج الجمهور معه في أداء كناوي مفعم بالحياة، جعل من الموسيقى جسرا بين الذكريات والانفعالات الحاضرة.

وكان الجمهور على موعد مع عرض "سيمافنك" الذي يجمع بين الروح الاستعراضية والفنية، ورسائل موسيقية تحتفي بالحرية والتنوع والانتماء الأفرو-لاتيني، حيث سادت أجواء حالة من الانسجام الموسيقي العابر للثقافات، تتناغم فيها الفانك بالالكترو والإيقاعات بالبلوز.

ولم تكن سهرة سيمافنك بمهرجان كناوة مجرد حفل موسيقي عابر، بل لحظة فنية نابضة بالابتكار، شهدت لقاء فريدا بين الثقافة الكوبية والروح الكناوية المغربية، تمثل في أداء مشترك جمعه بالمعلم خالد صانصي، أحد أبرز حاملي تقاليد الكناوة الأصيلة.

وفي لحظة من السحر الموسيقي، انطلقت نقرات "القراقب" لتعانق أنغام الغيتار والبوق والإيقاع الكاريبي، وسط تصفيق الجمهور وتمايله، حيث بدأ المزج بين الفانك والكناوي عفويا لكن متقنا، ما يؤكد أن الجذور الأفريقية المشتركة قادرة على خلق تآلفات جديدة ومبهرة.

واستضافت الدورة السادسة والعشرون لمهرجان كناوة وموسيقى العالم التي أضاءت سماء مدينة الرياح خلال الفترة الممتدة ما بين التاسع عشر والحادي والعشرين من يونيو/حزيران الجاري، 350 فنانا من بينهم 40 معلما كناويا، قدموا 54 حفلا موسيقيا ضمن أجندة مواعيد موسيقية متنوعة، وفرت للجمهور تجربة موسيقية متكاملة من خلال مزج فني على أشهر منصات مدينة الصويرة.

وحدد المنظمون مع إسدال الستار على دورة هذا العام، موعد الدورة السابعة والعشرين والتي ستكون ما بين الخامس والعشرين والسابع والعشرين من يونيو/حزيران 2026.

ويسطع مهرجان كناوة وموسيقى العالم بالصويرة منذ سنة 1998 بقدرته على الجمع بين التراث والحداثة، والتقاليد والابتكار. ويساهم المهرجان من خلال استثماره في التكوين، والبحث، والإبداع، في بناء منظومة ثقافية مغربية وأفريقية متكاملة، ويقدم للجمهور تجارب موسيقية نادرة لا تنسى.