مواجهة القصيدة القديمة

معظم التنظير الشعري للشعر القديم كان يحوم حول الصور البلاغية وقوانين النحو والإستذكارات الوصفية.
الغرضية الواضحة هي المصاب الذي أدى إلى عرقلة الرغبة التأملية العميقة في القصيدة والإكتفاء بالتلذذ بوهجها ذا التأثير السريع والزوال السريع
التفكير بفكرة واحدة هو الأساس الذي بنيت عليه القصيدة القديمة

قيس مجيد المولى

مثلَ النقص في اللغة والصورة الشعرية والأنشطة المعرفية الأخرى والإستخدام الأمثل للأسطورة وجعل الإنسان القضية الأساس عوامل انطلاق في الحداثة الجديدة، وكل ما يجب وصفه أن هناك نزعات إنفعالية تخطت تلك النزعات المحدودة، حتى أن معظم التنظير الشعري للشعر القديم كان يحوم حول الصور البلاغية وقوانين النحو والإستذكارات الوصفية.
الغرض النفعي في المقدمة
ولعلَ ومنذ العصر الجاهلي  كانَ ينظر إلى الشاعر على أنه لسان قومه وذلك خير دليل على تسيير الشاعر نحو أغراض ذات طبيعة إنتقائية ونفعية وتسيير لغته إشارة لشيء مشار إليه، أي أن الشاعرَ في الشعرِ القديم شاعرٌ خطابيٌ ومجمل انفعالاته هي انفعالات ظاهرية لا علاقة لها بالبعد الباطني ولا بالمجهول أو سرية النص.
الإعداد العقلي للقصيدة
في القصيدة القديمة يجمع الشّاعرُ الأشياءَ لكي يقولها رغم الاستثناءات عند بعض الشعراء التي تأتي صورهم الشعرية في لحظات التوهج والغيبوبة الشعرية، ولكن عموما هناك شيء من الوضوح ومن الموضوعية ومن المباشرة في ثنايا القصيدة القديمة، فهي موجّهة لشخص أو موجّهة لجمع أو موجّهة لحدث ما، وهذا الإقتران يكون إقترانا مرتبطاً بطبيعة فكرته المركزية وليس بأجزائه التشعبية، ومن خلاله يستطيع الملتقي كشف الهوية الشعرية للشاعر، أما الجانب الفلسفي فيبدو وبعمومه لا وجود له حتى في الحديث عن الجوانب الكونية، كون الشاعر في القصيدة القديمة يُسخر فلسفته نحو موضوعاته المُعَدة عقليا ويناغي الكون بوصفه ملهما بدون محاججته أو أثارة أي شكل من أشكال التساؤلات التي توحي بأن الشاعر يمتلك قدرا كبيرا من التضادات الروحية والنفسية والتي تشتغل على حقيقة الوجود ومعاني أزليته.
الأغراض العاطفية البحتة
إن التفكير بفكرة واحدة هو الأساس الذي بنيت عليه القصيدة القديمة مع ما كانت تحتويه من إيقاعية وقافية وإستعارة ومجاز وكان المدخل لغرض النص وروحه يبنى على مفارقات ليست ندية بل عبارات استهلال تقدم كوجبة بسيطة لقبول الوجبة الرئيسة، كما أن مستويات التأمل في القصيدة كانت ذات أغراض عاطفيه بحتة كون ما يكتب كان يفتقر إلى الأفكار ولا يمكن تأمل القصيدة الشعرية دون تأمل أفكارها ، أي الأفكار التي خلقها الشاعر في قصيدته.
الحساسية الشعرية حساسية ٌتقديرية
ولعل الغرضية الواضحة هي المصاب الذي أدى إلى عرقلة الرغبة التأملية العميقة في القصيدة والإكتفاء بالتلذذ بوهجها ذا التأثير السريع والزوال السريع، وكان الشاعر يبدأ ببعد واحد ليخاطب الآخر بمساحة من المكان وبتوقيت من الوقت ضمن الوقائع السائدة والتي تسود آنذاك، ولا شك أن التغيّر في الشعر القديم من شاعر لآخر كان تغييرا مظهريا لم يتعارض مع المفهوم السائد للشعر ولطبيعة وظيفته، كما أن حساسية الشعر القديم تجاه الأشياء هي حساسية تقديرية كون البيئة قد فعلت فعلها في المخيلة بحيث حددت مجالات الإستكشاف التخيلي، وقد يعني هذا أن الشاعر القديم شاعرٌ بالفطرةِ، وقد يكون كذلك لكنه لم يبدأ بتقديرنا من السلبية ولم ينته بها كون الصراع بين الواقع والخيال كان يميل إلى الواقع في جل ما كتب قديما.

الحداثيون وجدوا صلة أوثق في تقديم نماذجهم مع تنظيراتهم التي اعتنقوها وكانوا قد كشفوا عن ملجأهم الوحيد الذي يفجرون من خلاله اللغة والبناء القديم ألا وهو اللجوء إلى الحرية

الرؤية الإبداعية ليست أحادية الجانب
وقد قَدِّمَت الحداثة الشعرية لكي تتعامل بشكل مختلف مع الواقع، وابتدأت بفهم الواقع ورفضه ضمن المنطلقات التي يأملها الفعل الجمالي ضمن متطلبات النص في جدليته ورمزيته وغموض تأسيسه الذي ينتظره المتلقي في إطار قوى من المعايير الذوقية وتشويش الحقائق الأزلية، ولا يمكن أن نتخيل أن الشعر يقف عند حد ما، ولا يمكن أن نتخيل بأن الشعر لا يتطور مع المتغيرات ومراحل التطور، ومنها الاقتصادي والثقافي والفكري، وأن الرؤية الإبداعية ليست أحادية الجانب بل أنها شمولية في استبصار التحولات التي يُعكَس تأثيرها في المنتج الأدبي، ومنها على سبيل المثال النقلات الاجتماعية وظهور التيارات والنظريات، وكذلك الأخذ بنظر الاعتبار عدم التأثر حد التقليد بمبادئ كل عصر.
معايير الشك - النفي - القطيعة
وجد الحداثيون صلة أوثق في تقديم نماذجهم مع تنظيراتهم التي اعتنقوها وكانوا قد كشفوا عن ملجأهم الوحيد الذي يفجرون من خلاله اللغة والبناء القديم ألا وهو اللجوء إلى الحرية، فهم حين نظروا لإنسانهم فَمجدوا خَلاصه وسعيه لاستكمال نواقصه بحيث أصبح الإنسان هو الرمز وهو الأسطورة وواجهوا كل شيء بالتزامهم بما ينطلق  من معايير الذات بدءا بالشك والنفي والقطيعة وخلق الوعي المتكامل من أن الأشياء الأخرى رغم إفادة الشعر منها فإنها رخيصة وهامشية، ولا بد من القضاء على تلك الأشياء الرخيصة والهامشية، لا بد من العودة إلى المعيار الحقيقي للقيمة الحقيقية للإنسان.
منَ الحطام إلى طبيعة أخرى
وكحد أدنى لا بد من ملء ذلك الصراع بمختلف الأسئلة والتأثير في الأشكال التركيبية من تلك التي تتنقل في ذهنه ما بين الواقع وأدراكه وبين الحلم وتنشيط قواه التحفزية، بحيث إن كل ما سيتحقق يعني في حد ذاته مجرد نقلة ما  ينقل بها الشعر الجديد ما بقي من حطام ذلك الإنسان إلى طبيعة أخرى من الممكن خلالها تجديد كل قواه الفكرية والثقافية والإجتماعية ليستطع النظر بتفاؤل إلى أحاسيسه ومشاعره والتي طغى عليها اليأس والخراب. إن الوصول لذلك كما رأى الرواد الجدد أن يتم بأي شكل من أشكال القصد التعبيري سواء بالرؤية الفكاهية أو بالنص الدرامي أو بما تفرزه أساليب التراجيديا المتعددة شريطة استشارة الملكة الجمالية والتفريق بين القصد الجمالي وبين المعيارية الأخلاقية، فليس الشعر بالتعبير المباشر عن الوقائع أو المشاعر وليس الشعر شعراً غرضيا دعائيا ولا يمكن الحكم عليه إلا بمعياره الخاص الذي يخلو لحد ما من زمان معلوم ومكانية محددة ونظرية خاضعة لمزاجية العقل ضمن وحدة التفكير ووحدة المعرفة.