موعد مع حسن البنا.. فى لندن!

تناسل الجماعات

دعونا نتخلى عن السرد المنطقى لأحداث التاريخ القريب، ولتكن أجنحة الخيال هى التى تحملنا صوب التحليق نحو أفق أكثر اتساعاً لرؤية الواقع الإنسانى بكامل مكوناته، والمعنِى هنا المكونات الثلاثة الرئيسية لبناء المجتمع الإنسانى الوطن أو الأرض، والمواطن أو صاحب السيادة، ومنظومة القيم الحاكمة أو الدستور، وبالتالى يحملنا هذا التحليق نحو أفق الخيال، حيث لقاء واقِعُهُ محال، ويتطلب هذا التحليق أن يُعْمِّل كاتب هذه السطور أدوات حرفته الصحفية مستهدفاً الحصول على موعد مع (حسن البنا)، مؤسس تنظيم الإخوان المحلى والعالمي، لم تنته حياة الرجل كما تسرد كتب التاريخ القريب برصاصات أطلقت عليه فى فبراير 1948م، بل ظل الرجل يعيش ويتعايش مع عالمه التنظيمى الذى اتسعت دوائر بيعته، وامتدت آفاق أقطاره، وتعددت صور طرحه عبر شخوص وتنظيمات وجماعات مسلحة أو غير لكن جميعها تراه إماماً وشهيداً.

بينى وبين الرجل علاقة تعايش سرقت منى عُمْراً، وقد كُنْتُ واحداً ممن يشرحون (رسائله) لقواعد التنظيم، وبينى وبين ما كنتُ أشرحه مساحات من التأمل الهادئ المؤهل للمراجعة، لقد ترك الرجل من إرث الأفكار ما ينبغى التدبر فى محتواه بعيون غير تلك التى يزرعها التنظيم فى مقل من تصيبه جراثيمه، إنه محتوى قادر على تشكيل مكونات الواقع الإنساني، حيث لا حدود لأرض أو وطن، ولا خصوصية لإنسان أو صاحب سيادة، ولا دستور يسبق دستور التنظيم بيعة وتعاليم، وفى هذا الوطن المترامى الأطراف على أرجاء المعمورة، وحيث لا حدود معروفة لهذه الأطراف، من أين لصحفى أو باحث أن يصل إلى عنوان معروف لحسن البنا، فالوقع يؤكد أنه من مصر قد فر بعد ثورة 30 يونيو 2013م، ولكن بعض الآراء الموثقة تؤكد أنه قد خرج من مصر سراً تحت ذريعة العلاج بالخارج قبل 30 يونيو 2013 بأسبوع، على كلٍ فعصر شبكة المعلومات العالمية جعل أسباب التواصل بين البشر أيسر، وبالبحث يمكن أن نصل إلى أكثر من 80 عنوانا لحسن البنا، وكل واحد منها يقدم نفس الخطاب بلغة مختلفة وبجنسية مغايرة، وفى جميعها يحلم حسن البنا بالخلافة وأستاذية العالم.

رسالة قصيرة أتركها فى صندوق بريد الحسابات جميعها، مفادها بعد التعريف بكاتب الرسالة (أتطلع إلى تحديد موعد مع الأستاذ حسن البنا لمناقشته فى مستقبل مشروعه الذى يسعى لأستاذية العالم)، وجميع الرسائل تؤكد أنه تم تسلمها وقراءتها فور وصولها، ويتم الرد عليها مباشرة برسالة موحدة (جزاكم الله خيراً على تواصلكم وسيتم الرد على رسالتكم فى أقرب وقت، أخوكم حسن البنا)، ولأننى عايشت هكذا آليات تنظيمية روتينية قررت أن أتبع الرسالة برسالة أخرى (أرجو ألا يتأخر تحديد الموعد حتى لا أبدأ فى نشر ما يؤكد أن حسن البنا لم يمت فى فبراير 1949، تحياتي).

بعد أيام قليلة تصل دعوات اللقاء فى طرد شخصي، تذكرة سفر طائرة درجة أولى إلى عاصمة الضباب (لندن) مصحوبة بتأشيرة دخول للأراضى الانجليزية وتأكيد أن دليل الرحلة سينتظر الوصول فى المطار، ومن المطار يحملنى الدليل إلى ( 113 Cricklewood Broadway)، حيث مقر شركة تحمل اسم (World Media Services) ومسجلة منذ عام 1993 باعتبارها (شركة خاصة محدودة وغير تجارية)، يفتح باب الشركة فيستقبلنا السكرتير بابتسامة يوزعها التنظيم على وجوه كل سكرتاريته مهما تكن جنسياتهم، وعبر الطرقة الممتدة ينفتح باب المكتب الرئيسى حيث يجلس (حسن البنا).

وَجْهُ (البنا) سريع التبدل والتغير وكذا ثيابه، يبتسم فتراه (عمر التلمساني)، ويغضب فيصبح (سيد قطب ـ أسامة بن لادن ـ عبد الرسول سياف ـ أبو بكر البغدادي)، ويفكر فيصبح (راشد الغنوشى و محمد أحمد الراشد)، ويعظ فيغدو (يوسف القرضاوى أو عبد الرحمن البر أو وجدى غنيم)، ويحكم فتراه (خالد مشعل أو نجم الدين أربكان أو أردوغان أو محمد مرسي)، ولكن ملامح تكوينه التنظيمى تتجلى عندما يتحدث عن أستاذية العالم يصبح وجه حسن البنا أو مصطفى مشهور أو خيرت الشاطر أو محمود عزت أو إبراهيم منير.

حين قرر حسن البنا أن يُنهى اللقاء قال واثقاً (حسن البنا صار إماماً منذ 1928 حين أسس تنظيمه، وخلُد إماماً وشهيداً منذ 1949، وعلى من يُقرر إنكار ذلك أن يسبح ضد التيار العالمي)، وهكذا انسحبت كل وجوه البنا من سماء الكتابة، وعاد الكاتب إلى أرض الوطن والواقع من رحلة اللقاء على أرض رعاية التمكين (لندن)، حاملاً يقيناً بأن (حسن البنا) الذى رعى النظام العالمى المستعمِر حياته وتنظيمه، ووضع لعمره نهاية درامية، سيظل حياً رافعاً راية التهديد للإنسانية طالما بقيت كل حواراتنا معه قائمة على تعرية تجليات مشروعه لا فضحه.

عبد الجليل الشرنوبى

كاتب مصري