مي مظفر تقدم سيرة حب وحياة وتاريخ حافل بالإبداع
"ترك رحيل رافع عن أرضنا فراغًا مهولًا ما كان لأي شيء أو أحد قدرة على انتشالي من هوته السحيقة، سوى الحفاظ على وجوده حيًا معي".
هكذا تبدأ الكاتبة مي مظفر كتابها عن سيرتها المؤثرة مع زوجها الفنان الراحل رافع الناصري، فتستعمل في تلك البداية عبارة "رحل عن أرضنا"، وليس عن الحياة، وكأنها تنكر ذلك الغياب منذ السطر الأول للكتاب، وتريد الحفاظ على وجوده حيا معها في لوحة حضور أبدي.. هذا ما شهدته بنفسي، عندما زرنا أنا وزوجي الراحل الدكتور نجم محترف الناصري في اللويبدة قبل سنوات، فشعرنا بوجوده في كل ركن من المكان، وأيضا في نظرة عينيها الذاهبة إليه طوال الوقت. إنها صورة حية لوفاء نادر، وعطاء إبداعي ثري، ومسيرة حياتية اتسمت بالمحبة الشديدة، فقررتْ مي مظفر أن توثقها في هذا الكتاب "أنا ورافع: سيرة الماء والنار"*
كيف تعرفتْ مي مظفر على رافع الناصري:
قبل أكثر من أربعين عاما، وفي إحدى زياراتها لدار صديقهما المشترك جبرا إبراهيم جبرا، استوقفتها في المدخل لوحة شفافة بالأبيض والأزرق لم يظهر اسم الرسام عليها. سألت مي جبرا عن اسم الرسام، فقال لها كيف لا تعرفينه، إنه رافع الناصري. بعد ذلك بفترة، وفي مطلع العام 1971، رأته في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث (كولبنكيان)، تساءلتْ يومها عمن يكون ذلك الشاب الوسيم الذي يلاحقها بنظراته السرية، ولماذا لا يكلمها مباشرة؟. عرفتْ من ضياء العزاوي أنه نفسه الفنان الذي سحرتها لوحاته، ثم توطدت علاقتهما قليلاً، بعد ذلك، فأصبح رافع يتردد على مكتبها، ويطيل البقاء، ولكنه لا يتكلم كثيرا، إلى أن مرت الأيام، ونطق أخيرا، فقال لها ذات يوم: لا يليق بك الجلوس على مكتب حديدي. ينبغي أن يصنعوا لك مكتبا شفافا، فضحكتْ صديقتها عنان سامي فتاح، وقالت لها لم أسمع غزلا كهذا من قبل.
استمرتْ العلاقة في كر وفر لمدة عامين: بين لقاء وفراق، بين وضوح وغموض، بين ماء ونار. وهذه الفصول الأولى من الكتاب لا تقل جمالا عن الفصول الأخرى المتعلقة بعائلتها ونشأتها في منطقة العلوازية، بين مدرسة السعدون النموذجية، ثم الراهبات الثانوية، ثم كلية الآداب (الخمسينات). ولكن الفصلين الأولين فيهما طعم المفاجآت والتحولات المتلاحقة في قصة حب عاصف تعرض للكثير من المطبات، إلى حين جاء خريف عام 73، فعقدا قرانهما في إجراءات بسيطة جدا، ثم أقاما في (كوخ) صغير منمنم أعده رافع بنفسه، وكان ملحقا ببيت عائلته في القادسية، وعاشا في ذلك البيت 11 عاما.
لا زلت أقرأ في الكتاب فصولا من تاريخ العراق، منبهرة بالأسماء الرائعة، والجماعات الفنية، والأماكن الأنيقة التي كان يؤمها المعماريون والتشكيليون في بغداد. ستأخذنا مي مظفر في جولة ساحرة بين المدن الكثيرة التي ذهبا إليها: من لندن وبيروت وعمان وحتى أصيلة وسالزبوغ ومدن الساحل الجنوبي في فرنسا. سلكا طريقها في سيارة رينو 5 مستأجرة، ثم تاها في الطريق الزراعي، بدلاً من السريع، ليكتشفا من خلال ذلك التيه أجمل مناظر الطبيعة الخضراء.
لم أطق صبرا على هذا السؤال الذي كتبته للعزيزة مي مظفر على الماسنجر:
هل أنت من النوع الذي يكتب يومياته؟ من غير المعقول أن كل هذه الأحداث الحاشدة تأتي من الذاكرة فقط؟؟ أنت تذكرين حتى اسم الأغنية التي كانت مشتغلة في المطعم أثناء تناول الطعام؟
نعم أنا أكتب يومياتي، ولكنني لم استخدمها في كتابة هذه الأحداث باستثناء الفصلين الأول والثاني أي علاقتي مع رافع قبل الزواج. أنا امتلك ذاكرة حية، فما زلت أذكر دخولي إلى المدرسة، ومن كان معي في صف الروضة رحلة برحلة. الأمر الثاني هو أنني كتبت عن تجارب حية مرت بحياتي، وجميعها كما ترين مؤثرة جدا وهذا هو السبب، بل أنا لا ولم أكتب قط إلا من تجربة شخصية شهدتها أو سمعتها أو هرستني بها الحياة.
في مكان آخر من الكتاب اقتبس للشاعرة والناقدة مي مظفر قولها:
من أجل أن أملأ الفراغ الرهيب الذي تركه غيابك، ومن أجل أن أكون معك وبرفقتك، سأشرع بتدوين مسيرة حياتنا على مدى أربعين عاما، حدثتك ذات يوم استعدت فيه بعض عافيتك عن نيتي تأليف كتاب كهذا، فانفرج وجهك السمح، وقلت لي بصوت خافت "ياريت".
ومي مظفر لم تملأ الفراغ الذي تركه غياب رافع الناصري فحسب، وإنما تركت لنا دليلا عظيما من أحداث ثرية عاشتها بين أسماء كبيرة لمعارفها ومجايليها الأدباء والفنانين والمعماريين من ديزي الأمير ولميعة عباس عمارة ونجيب المانع وأدونيس وخالد القصاب، وحتى ضياء العزاوي وفائق حسن ورفعت الجادرجي ونزار قباني وخليل حاوي وجبرا إبراهيم جبرا. إنه كتاب نادر مكتوب بقلم حاذق وذاكرة جبارة.
*الكتاب صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2024