ناهدة جابر جاسم تتعبد في محراب الكتابة

سماح عادل تحاور الكاتبة العراقية والناشطة السياسية اليسارية جابر جاسم عن تجربتها مع الشعر والنثر.

ناهدة جابر جاسم كاتبة عراقية، من مواليد الديوانية، العراق، تركت العراق نتيجة لكونها ناشطة سياسية، ومرت بظروف قاسية. حصلت على شهادة الدبلوم في الإدارة والاقتصاد 1998- روسكيلده الدنمارك، تخرجت من معهد الدراسات العليا في كوبنهاجن 2005، عملت في منظمة مساعدة اللاجئين الدنمركية كمستشارة ثقافية وإجتماعية ولأكثر من عشر سنوات، وعملت مترجمة في منظمة الصليب الأحمر.

كان لي معها هذا الحوار الشيق:

*في البداية، منذ الطفولة، هل كنت تحلمين أن تصبحي كاتبة، وكيف كانت تأثيرات الطفولة على ذات الكاتبة لديك؟

- الكتابة موهبة تولد مع الفرد، تصقلها التجربة والقراءة المبرمجة والاطلاع على كلاسيكيات الأدب المترجم والعربي مما يؤدي إلى تطوير أدوات الكاتب الخاصة به ومن هنا تبرز ملامح شخصية الكاتب الأدبية. والطفولة هي الأساس في تكوين الشخصية وأركانها الأخلاقية والإنسانية ومنها تتحدد معالم الفرد ونظرته وكيفية تعامله مع الحياة وتجاربها.

كانت جدتي والدة أبي ووالدي وأمي يتناوبون على قص الحكايات لنا ونحن نجلس حول المدفأة النفطية في ليالي الشتاء، حكايات كانت ترحل بي إلى عوالم خيالية لكنها رسخت عندي مبادئ عميقة حول الفرق بين الخير والشر، وجعلتني احترم الإنسان كونه كائن يتوجب عليه أن يحب الجميع ويعمل من أجل الآخرين، حكايات كنا ننبهر بها ولكنها أبدا لم تكن بريئة.

كانت ترمي إلى بناء قيم نبيلة سأشعر بأهميتها في أيام نضجي وصعاب التجربة العنيفة التي خضتها. في مرحلة المتوسطة الدراسية تميزت على زميلاتي في حصة الإنشاء في درس اللغة العربية. كنت اجعل من الطير يهمس لحبيبته والوردة تعانقني والنخلة تحاور أمها الأرض، وهكذا كان خيالي يرحل بيَّ بعيدا عن الواقع. كنت مهووسة بتدوين الصغيرة والكبيرة من يوميات حياتي وما يصادفني في العائلة والمدرسة حيث أصبحت دفاتري مخبأ أسراري.

* في مجموعتك الشعرية "التين الأسمر" خليط من العشق والحزن والشجن والإحساس بالوحدة، هل يصبح الشعر أحيانا وسيلة للتعبير عن انهزام الذات؟

- بالعكس أرى الشعر يشد ويقوي من عزيمة الذات في مواجهة صِعاب الحياة وأهوالها، خصوصا لامرأة مثلي ذَاقت أهوال وعذابات التشرد والعيش في منافي بلدان مختلفة، وخسارة كبيرة على مستوى القناعات السياسية والتجربة النضالية التي خضتها في زمن أعتى دكتاتور حكم العراق، وتسَبَبَ في هزائم وخراب العراق خصوصاً والدول العربية عموماً.

 الشعر لحظة إلهام تفجرها تجربة الشاعر الحسية والحياتية، الشعر مثل شهب ينير لحظات الظلام والهوة التي تواجه الإنسان المرهف الحس، عندما أقرأ القصيدة أو النص النثري بعد الانتهاء من تفريغ الشحنة الحسية وتنقيحه واللحظة التي خلقت هذه القصيدة وتلك القطعة النثرية أشعرُ وكأنني ولدت من جَديد.

*في مجموعتك الشعرية "التين الأسمر" تماهي مع مفردات الطبيعة، حيث يتم استخدام تلك المفردات في توصيفات كثيرة لحالات العشق ولحالات نفسية مختلفة. ما سر شغفك بالطبيعة؟

- تدلهي بالطبيعة واستخدام مفرداتها في نصوصي الشعرية تعود إلى اهتمامي بطيور أبي في طفولتي وصباي، وسنوات نضالي في صفوف الحركة المسلحة في جبال العراق في ثمانينيات القرن الماضي، التي تتمتع بطبيعة خلابة من عيون ماء حلو الطعم وعذب المذاق وثمار وفواكه وأشجار جوز معمرة وكأنها جنة الله الموعودة. الطبيعة وفرت لي ولرفاقي في التجربة النضالية المسلحة الأمان واللوذ خلف صخورها من مخاطر الموت القادم من قصف مدفعي وصواريخ تمطرها مدافع و طيران الدكتاتور في تلك الحقبة.

أما عيشي على ساحل بحر الشمال الذي أدمنت سحره في محطتي الأخيرة بالمنفى في - الدنمارك- أصبح البحر صديق ورفيق أحزاني الأوحد، الذي أبوح له بكلِ ما يوجعني، مطمئنة أنه لا يبوح وجعي إلى آخر سوى صخب موجاته وارتفاع مده في المساء وسكينة روحه في النهار. البحر والغابة صديقيَّ الأوحدين.

* في المجموعة القصصية "العاشقة والسكير" في قصة "ذات صباح غائم" مناقشة للأفكار الماركسية وفشل حلم تحقيق العدالة الطوباوي حدثينا عن ذلك؟

- التيمة الجوهرية للمجموعة تدور حول الإشكالات النفسية التي تعاني منها المرأة العربية ضمن إطار العلاقة الزوجية التي أعطبتها ظروف المنفى بشكل خاص. كما تخوض المجموعة في تيمة جوهرية أخرى تتعلق بالإشكالية الوجودية للمرأة في الحياة بشكل عام والمرأة الشرقية التي تعيش في مجتمع غربي يمنحها حرية مطلقة وثقافة غربية مختلفة، تتقاطع قيمها مع القيم والتقاليد التي تربت عليها في مجتمعها العربي المتحفظ والمضطهد لحقوقها.

 كل نصوص المجموعة تتناول هذا التعارض ومحنة المرأة في مأزقها الوجودي في خضم التجربة. حاولت في قصة "ذات صباح غائم" رسم شخصية امرأة عانت من مشاعر الإهمال والخسارة من قبل الزوج الذي ظنت به نصفها الآخر فاعتقدت أن الحياة لا تستأهل أن تعاش، ولكنها اكتشفت بعد فشل محاولة الانتحار أن الحياة أوسع من زوج وجديرة بالعيش. والتيمة الجوهرية لهذه القصة هو الصراع بين العدم ومعنى الحياة، بين الجدار والأفق عبر تفاصيل حياتية وحسية صغيرة.

*في قصة "القديسة والشيطان" إشارة لانخراطك في النضال مع الأكراد في شمال العراق، كيف كان تأثير تلك التجربة عليك وعلى حياتك التي تلتها؟ وهل تناقضات العمل السري أفقدتك الإيمان بقدسيته؟

- القصة القصيرة ما هي إلا مساحة للبوح وإطار للسرد يُوِثّق زمن الذات. وكل عمل أدبي هو مزيج بين الواقع والخيال وإلا لا يمكن أن يكون عملا أدبيا ناجحا. في "القديسة والشيطان" أردت القول إن المرأة لها الحق أن تختار وبحرية لا ما تفرضه العادات والتقاليد التي تربت عليها في مجتمعها العربي. وعلى مستوى تجربتي النضالية كنت أطمح لتحقيق المدينة الفاضلة في وطني ولكنني خلصت إلى أنني طالما لم أستطع تحقيق هذا الطموح فعليَّ تغيير نظرتي إلى العالم، فكانت نصوصي تجارب حقيقية ومفتوحة شأنها شأن الحياة.

*في قصة "وداعا ابنتي" تلك العلاقة الإشكالية بين الأب والابنة، وكيف يعد الأب أحد الروافد الهامة في تشكيل ذات الفتاة، وتظل علاقتها به تلاحقها سنوات حياتها. حدثينا عن ذلك؟

- كان والدي متدينا بطريقة منفتحة إنسانية حتى أنه كان يأخذنا بصحبته إلى السينما في مدينتي الصحراوية -الديوانية- لنشاهد أفلاماً اجتماعية وإنسانية طبعا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وفر لي ولا أخواتي أفضل مستلزمات التعليم التي حرم منها بسبب طبيعة حياته كتاجر لحوم، تحمل مسؤولية عائلة كبيرة بوقت مبكر من حياته بعد موت أخويه، والحكم على أحد أولاد أخيه بالسجن لمدة عشرين عاما في قضية سرقة الطابعة في عام 1963 في مدينة الديوانية، القضية التي شارك بها نخبة من شباب المدينة ومنهم الشاعر الراحل "علي الشباني"، إذ كان يعيل عائلتيهما مضاف إلى عائلته.

 قضيت طفولتي وصباي سعيدة حتى أنني لا أتذكر أن في يوما خلدت إلى الفراش خائفة أو حزينة أو مكسورة الخاطر. في قصة "وداعاً ابنتي" التقطت لحظة مكاشفة إنسانية بين فتاة مناضلة، تمارس العمل السري ثم تلتحق بالمقاومة المسلحة وأب طيب كانت تظنه جباناً يتجنب السياسة منذ أن اعتقل بمقر الحرس القومي عام 1963، ثم يتضح لها كيف عانى حين أجبروه على توقيع براءته من ابنته "الشيوعية العاهرة" ولكنه يغامر في زمن الدكتاتورية ويتحمل مشقة السفر للخارج لكي يرى ابنته. لوالدي الفضل الأكبر بتكوين كياني الاجتماعي وقوة قناعاتي واختياراتي في الحياة.

* هل تشعرين بالحنين تجاه العراق، وكيف يتجلى ذلك في نصوصك؟

- العراق طفولتي وصباي وشبابي وأمي وأبي وأصدقائي طفولتي ورفاق تجربتي النضالية، وأبناء جلدتي فكيف إذن لا أحنُ إلى كل مكونات كياني؟. العراق يعني الناس وأهلي الذين شاركتهم الهم والأفراح والأتراح، العراق بيت الطفولة والنخيل ونهري دجلة والفرات وشط العرب، كل نصوصي الشعرية والقصصية تنبض بروح العراق، العراق ومدينتي الديوانية هاجسي الذي يعيش معي في منفاي.

* حين تقرر الكاتبة كتابة ذاتها حياتها ومعاناتها وأفراحها هل يوقفها بعض الخوف من تلصص بعض القراء عليها؟

- الخوف أكبر وأخطر عدو للإنسان، طبيعة شخصيتي جريئة. الخوف والشجاعة مشاعر موجودة داخل كل إنسان، وكل إنسان تتولد لديه لحظات خوف ولكنني كنت أتصرف في أشّد المواقف بشجاعة. وما مررت به من تجارب إنسانية من قصة عشقي ابن جيراننا وإعلانها لكل أفراد بيئتي الاجتماعية ومقاومة موقف الأهل الرافض تماما لمشروع الارتباط به.

 مقاطعتي لهم لفترة غير قليلة بعد زواجي المفروض بمن عشقه قلبي، ومن ثم انهماكي في السياسة والتحاقي في صفوف الحركة المسلحة في جبال العراق التي تبناها الحزب الشيوعي العراقي، أوائل ثمانينيات القرن الماضي في زمن أعتى وأشرس دكتاتور حكم العراق.

عندما أكتب أكون مثل كاهنٍ يتعبد متوحداً بخالقه، لا أفكر بالقارئ بل أفكر بتيمة النص ونحته بالإضافة إلى أن عيشي في مجتمع حر وفرَ لي حريةمطلقة بالتعبير عما أشعر به أو ما عايشته في حياتي العملية، واختلاطي بثقافات مختلفة من شتى بقاع الأرض، بحكم عملي كمستشارة لاندماج اللاجئين الجدد مع المجتمع الدنماركي في منظمة مساعدة اللاجئين الدنماركية.

*هل تتابعين أحوال الثقافة في العراق وما تقييمك لها ولماذا لم تنشر كتبك في العراق؟

- الوضع الثقافي هو انعكاس للوضع السياسي والاجتماعي والتعليمي في كل بلد. التدهور الذي وصل إليه المجتمع العراقي وخراب الفرد وانتهاكه من قبل المنظومات السياسية المتعاقبة في تاريخ العراق، والحروب التي شنها نظام صدام الدكتاتوري منذ عام 1980، وآخرها تسلط الأحزاب الإسلامية التي جلبها الاحتلال الانجلو- أمريكي منذ عام 2003 ولحد الآن.

 وما نتج عنها من مفخخات واغتيالات لكل صوت يطالب بعراق حر ديمقراطي يحترم الإنسان وحقه في العيش الكريم فعلت فعلها المدمر لكل مظاهر التحضر والمعرفة الحقيقية. دور السينما أُغلقت، لا موسيقى لا مسارح جادة، لا مدارس بنيت، لا شوارع بلطت، لا معامل عادت إلى العمل، سيادة للجهل والتخلف والخرافة وقيم العشيرة التي فككت الدولة والمجتمع، ومنعت الكثير من المظاهر الثقافية ومهرجانات الموسيقى فالعراق بلد يحتضر مدنيا، وعلى وشك التقسيم بل مقسم فعليا، فأية ثقافة في ظل هذه الظروف؟، واستدرك هنا أن ديواني الأخير (التين الأسمر) من إصدارات اتحاد الكتاب والأدباء في العراق لهذا العام.

* هل توجد اختلافات بين الكتابة لدى النساء وبين الكتابة لدى الرجال في رأيك، وما هي ملامح هذه الاختلافات؟

- لا اعتقد هناك اختلاف بين النص الذي يكتبه كاتب أو النص الذي تكتبه كاتبة. أنا شخصيا اعتبر الأدب الإنساني كما الفنون مثل الموسيقى متسامياً على كل المسميات.

على سبيل المثال لا الحصر رواية "كاتيوشا" للكاتب المصري "وحيد الطويلة" كانت بلسان حال المرأة. كانت مبهرة في وصف مشاعر المرأة الخاسرة والمهزومة.

* ما رأيك في مصطلح "الأدب النسوي" وهل تسعين في أدبك إلى الدفاع عن قضايا المرأة وحقوقها وكشف التمييز الواقع على المرأة في المجتمع؟

- لست مع مصطلح الأدب النسوي أو الذكوري، الأدب من القصة والشعر والرواية عمل إنساني يحاول الكاتب من خلاله أن يوصل الهدف الذي يريده، كما يعتبر الأدب نوع من أنواع المواجهة للظواهر التي تحط من قيمة الفرد والصراع مع كل ما لا يليق بقيمة الانسان.

في مرحلة تفتحي على عالم القراءة بدأت أَنْهَمٌ كل ما يقع بيدي من كتب، مجموعة قصصية، رواية، فلسفة ولكنني توقفت كثيرا عند كتاب "فريدريك انجلس" (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة) إذ رأيتني أنا الأنثى التي كنت تمتلك الحق الأُمومي، كان المولود المترعرع في رحمي باسمي وأمتلكه الرجل حينما صرنا ربات بيوت.

صرت شبه مهووسة في البحث عن كينونة الإنسان بشكل عام والمرأة بشكل خاص بعد قراءة هذا الكتاب، من هنا وبعد هذا التراكم المعرفي والحسي بدأت ثورتي و تمردي على المجتمع العراقي وتقاليده التي تحتقر المرأة في مجتمع ثقافته رجولية بحتة، كان تمردي يعتبر شاذا لا يتوافق مع المجتمع العراقي المحكوم بتقاليد أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة، عشقت جاري وتزوجت منه عنوة على أهلي لأن الحب كان ومازال من المحرمات في مجتمعنا العربي.

ساهمت وبشكل مبكر في النشاط السياسي السري ضمن تنظيمات الحزب الشيوعي في العراق مما اضطرني لاحقا أن أغادر مدينتي واترك ابني وهو في عمر الثلاث سنوات، ملتحقة بصفوف الأنصار الشيوعيين في شمال العراق، تلك الرحلة التي أوصلتني في مرحلتها الأخيرة إلى منفاي، الدنمارك، وهنا بدأ نضالي الآخر. مجتمع جديد ولغة جديدة وثقافة أخرى أعطت حقوقاً للمرأة لم أعرفها إلا من خلال الكتب والنظريات، وأظن أنني نجحت بالتكيف معه.

*الكتابة عن الجسد وإشكالياته، والتي قد تشغل عدد لا بأس به من الكاتبات، وتعتبر إحدى التهم الجاهزة التي يوجهها بعض الكتاب والنقاد من الرجال إلى كتابات النساء في العموم . كيف كانت الكتابة عن الجسد في نصوصك؟

- الجسد في صوره المتعددة والتي حاولت في نصوصي الشعرية والقصصية أن أرسم فيه جدارية للجسد البشري انطلاقا من حقيقة أن الجسد مرآة للروح والتي انعكست على الحالة السياسية واضطراباتها في العراق وعلى المرأة وبالذات التي تحمل فكرا يساريا، من خوف ومن قهر في زمن الديكتاتورية والتي خلفت شروخ في الروح من الصعب نسيانها.

الكتابة لديَّ هي فضاء مفتوح للجسد، لتحريره من مختلف أشكال الحجب والاستغلال والتربص والمصادرة والملاحقة وتحميله وزر الخطايا التي يرتكبها المجتمع وقيمه.