هدفان لمصر في الغاز ومكافحة الهجرة

التجربة المصرية نجحت لأنها ربطت بين مكافحة الإرهاب ومكافحة الهجرة غير الشرعية.

التقدم الذي حققته مصر على المستوى الخارجي له ألوان عديدة ومؤثرة، ربما لم يأخذ حظه من الاهتمام على المستوى الداخلي، لكنه واقع إيجابي يصعب تجاهله وسط حزمة كبيرة من التحديات، نجحت السياسة المصرية في التصدي لها وتخطي عقباتها السنوات الماضية.

عندما أعلن طارق الملا وزير البترول والثروة المعدنية قبل أيام، تحقيق اكتفاء ذاتي من الغاز الطبيعي كان يدشن مرحلة جديدة في عمر الدولة العصرية لمواجهة واحدة من العقبات التي أثرت على مناح كثيرة، ويؤكد أن هناك مستقبلا واعدا في هذا الفضاء يمكن تطويره وجني جملة من الثمار الحيوية.

دعك من القيمة المادية للعائدات المقبلة من غاز شرق المتوسط، والاكتشافات الواعدة، فهناك مزايا سوف تمنح مصر ثقلا إستراتيجيا في المنطقة، وتجعل منها مركزا مهما للطاقة، التي تتنافس وتتصارع عليها قوى كبرى، من حيث الاستخراج والتصدير وحركة الأسواق والنفوذ العالمي، والقدرة على التحكم في مصائر قضايا مختلفة.

دول غربية كثيرة، تثمن الاتفاقيات التي توصلت إليها مصر مع جهات عدة بشأن الغاز الطبيعي، اكتشافا واستخراجا وتسييلا وتصديرا، وتعمل على تشجيعها لتحويلها إلى بؤرة مؤثرة في العالم، وهي تدرك أن القيمة المادية لا تقارن بما تنطوي عليه هذه السلعة من صفات نوعية لها انعكاسات على ملفات إستراتيجية.

التراكم الاقتصادي الذي أحرزته مصر، واصطحب معه تسديد أهداف متقنة في مرمى دول متباينة في المنطقة، يمنح أولوية للغاز ومشتقاته، ويعزز القدرة على تحقيق إنجازات تعجز الوسائل التقليدية عن الوصول إليها، وتجعل من التركيز عليه مسألة ضرورية، بعد أن أصبحت العلاقات الاقتصادية واحدة من الأدوات التي تتجاوز نتائجها ما تحققه الدبلوماسية في جانبها السياسي المباشر.

غالبية دول العالم تتجه الآن نحو تكتيل تحالفات للتعاون الاقتصادي، وتحاول القفز فوق الحواجز والعقبات عبر إيجاد مساحات للتنمية المشتركة. ولعل النموذج الصاعد في منطقة القرن الأفريقي يؤكد هذا الاتجاه، والذي بدأت مصر تتجاوب مع روافده، في السودان وإثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان، مستفيدة من قدرتها على نسج خيوط تعاون متينة مع دول المنطقة، وأملا في أن يصبح هذا التوجه مدخلا مناسبا لتسوية الكثير من المشكلات العالقة.

الالتفاف حول شبكة محكمة من المصالح يجعل مصر تحتل مكانة بارز في المنطقة، وتعبر مجموعة من الأزمات الإقليمية حاولت بعض القوى وضعها في طريقها. بل وتلقى دعما لافتا من جهات ترتاح لاقتحام مصر مجال الطاقة، والذي يمكن توظيفها سياسيا لخدمة القضايا الوطنية، لأن ما توفره دبلوماسية الغاز يساعد في كبح جماح كثير من القوى المناوئة.

هناك انتصارات متنوعة تحققت خلال الفترة الماضية، لقيت صدى إيجابيا لدى قوى غربية، جعلتها ترى في مصر واحدة من المفاصل الرئيسية للحل والعقد، ويمكن أن تصبح رمانة ميزان في المنطقة، وتمارس دورها الإقليمي المؤثر في إطار واسع من التفاهمات مع الآخرين، تنطلق من مساحات متزايدة للتعاون والتنسيق.

الدور البارع الذي لعبته مصر في مجال مكافحة الهجرة غير الشرعية مؤخرا، جعلها واحدة من أهم الدول التي تصدت لموجاتها المتتالية، والتي قضت مضاجع الكثير من الدول الأوروبية، وتحولت عند بعضها إلى أزمة أساسية. فقد جرى تجفيف المنابع، وسد المنافذ حول من برعوا في تهريب مئات الآلاف إلى سواحل جنوب البحر المتوسط.

الإشادات التي تلقتها القاهرة من عواصم غربية لنجاحها في مكافحة الهجرة غير الشرعية بطريقة سلسة، دفعتهم إلى المطالبة بتعزيز أواصر التعاون معها، ومحاولة تعميم التجربة في المنطقة. فقد أنفقت دول الاتحاد الأوروبي الكثير من الأموال ولم تتمكن من وقف الهجرة. ورصدت ميزانيات ضخمة للأعوام المقبلة، وهناك شكوك ترواد من وضعوها للحد من الكثافة المقلقة للهجرة.

التجربة المصرية نجحت لأنها ربطت بين مكافحة الإرهاب ومكافحة الهجرة غير الشرعية. وربطت بين من يقومون بتهريب الأسلحة، ومن يعملون ليلا ونهارا على تهريب البشر. هي وصفة لم تستوعبها الدول الأوروبية المختلفة في البداية، وتعمدت عدم الانتباه لها ورفضت منحها ما تستحقه من اهتمام ومصداقية.

تجاوزتها حتى لا تجد نفسها أمام حقيقة عارية، تقول من يتاجرون في الإرهاب هم أنفسهم من يتاجرون في البشر تقريبا، سواء كان هؤلاء من المجرمين والإرهابيين أو من البسطاء والفقراء الذين يبحثون عن مكان يؤويهم ويوفر لهم حياة معيشية مناسبة.

اعتراف الاتحاد الأوروبي بقدرة مصر على غلق مسافات شاسعة من سواحلها، بعد أن كانت مصدرا رئيسيا للهجرة غير الشرعية قبل عامين، قدم للقاهرة هدية اجتماعية لها أجنحة اقتصادية وسياسية. حيث يستطيع الاتحاد توفير جزء معتبر من الإنفاق المخصص لمكافحة الهجرة، ودعم التجربة اقتصاديا، وتوفير ما تحتاجه من أموال لتعميمها إقليميا.

السباق الغربي نحو توطيد أواصر العلاقات مع مصر في مجال الهجرة، يؤدي إلى الاستجابة لمطلبها الذي ألحت عليه بشأن اعتبار مكافحة الإرهاب هو الطريق لمكافحة الهجرة. وهي خطوة بالغة الأهمية، تصب حصيلتها في مجال دعم الرؤية المصرية الشاملة، ومحاولة مناقشة الظاهرة في إطارها الحقيقي بدون لف ودوران، ومن غير محاولات لتغيير دفة الحوار، وحتمية الابتعاد عن التفرقة بين إسلاميين متشددين وآخرين معتدلين. فالكل في الهم واحد.

الانحراف في التقديرات الغربية وعدم مواجهة الأزمة مباشرة، أدخلها في دهاليز وعرة، وأخر العلاج. فتارة تم التفكير في إنشاء معسكرات تأوي لاجئين في دول شمال أفريقيا، وأخرى بالمناداة بصرف مساعدات سخية قد تجبر هؤلاء على عدم التفكير في عبور البحر المتوسط إلى الضفة المقابلة، وثالثة بزيادة الاعتماد على الإجراءات الأمنية الصارمة، وتقوية الحراسات على الحدود المشتركة بين الدول، ورابعة بالتركيز على المناحي الإنسانية وتجنب مناقشة الظاهرة في أبعادها العملية.

أمام مصر فرصة جيدة للبناء على هذه المحددات، وتحقيق اختراقات قوية تفيد على المستوى السياسي، وهو ما يمنحها مزايا جديدة لتوطيد علاقاتها الغربية. مطلوب إدراك أن ما تملكه من أوراق مهم، وما لديها من قدرة على الانجاز غير قليل، ما يجعلها من القوى الرئيسية المؤثرة في المنطقة. فالعالم الذي يقوم على المصالح سيجد في مصر مكانا مناسبا لتعظيمها.