هدى رجب والمنسوجة التشكيلية

التشكيلية التونسية تتمتع بمهارات فنية وإبداعية تتبدى في جسد العمل الفني المنسوج توقا للحداثة الفنية.
هدى رجب حريصة على الشغف الجمالي وهي تحيك شيئا من حكاياتنا الشتى بمبتكرها الإنساني. 
نمدحك أيتها الشجاعة في الأثر من قدم الإنسان إلى الآن 

الفن هذا السفر الدفين المحلى بالشجن حيث لا ملاذ غير نشيد ينبت مثل أعشاب قديمة تجددها الأغاني والأماني. هي فكرة القدم إذ يبتكر هذا الكائن الجميل الذي هو الإنسان في عنفوان فطنته ما به ينشد يوما جديدا يتزين بممكنات الفن لينحت من الخيوط لباسا وكساء وتلوينات لفضاءات حياته، قولا بالآدمية وتأصيلا لفكرة الجمال الممكن و المبثوث على قارعة الحياة كل صباح..
من فكرة القدم وعبر الزمان بتجاويفه ومنعطفاته لمعت ذات الحكاية التي كان لها في تربتنا على مدى التواريخ حضور ومجد لنشهد مع تطور ملحمة الإنسان والآلة ممكنات جديدة متجددة هي بمثابة المبتكرات، بل هو الإبداع في تجلياته الثقافية والحضارية.
النسيج .. هذا العنوان اللافت صار من علامات الحاضر فينا بالنظر للحالة بما هي إبداع وجمال حيث النسوة يشغلن الأنامل والسواعد في ضرب من المواويل والشجن والوجد تقصدا لحالة فيها الابتكار المفعم بالحكايا، وهكذا لنقف على مخزون وموروث مهم من المنسوجات التي هي بالنهاية إبداع.
الفن التشكيلي والفنانون التونسيون لمعوا بالفعل في هكذا عطاء تجاه حالات النسج وتفاصيلها نشدانا للإبداعي الكامن في هذا الضرب الفني المخصوص الذي يتطلب الدقة والمهارات منذ التخطيط الأولي المرسوم على الورق إلى تخير الأشكال والخطوط والعلامات لتعبث أثر ذلك جماليا وفنيا وتقنيا أنامل الحرفيين انتهاء إلى اللوحة المنسوجة بمختلف أحجامها وأشكالها وتخريجاتها.
فن النسيج من الفنون الدارجة منذ القدم ويشهد في عديد الجهات التونسية ومن زمان الحضور والمجد الدال على عراقة العائلة وأصالة فعلها ليتطور بتلك اللمسات التي هي رؤية فنان أمهر يذهب بالنسيج إلى قصوى حالاته الإبداعية قتلا للنمطي والزائد الممل العالق بهذه الممارسة الفنية من زمان أيضا.

أعمال هدى رجب بمثابة السمفونيات الضاجة بالهدوء والحكمة والكلمات. إنها تكتب القصائد وهي تحلم بعملها. لوحاتها قصائد تعددت خيوطها وألوانها

اليوم ومن خلال الذاكرة الفنية التونسية في هذا الفن نلمس تلك الجماليات التي أضفت على هذا الفعل الفني لترتقي به إلى مراتب عالية من رفعة المبتكرات الفنية. نذكر إبداعات فرحات ودقدوق والصامت.
هكذا ومن بوابة هذا الفن الإنساني النبيل نلج عوالم الفنانة التشكيلية النساجة التي تخيرت هذا التمشي الجمالي نهجا وعنوان إبداع وعطاء بكل ما في المسألة من دقة وعناء ولكن لا مناص من العناء في خانة الإبداع. الفنان المبدع جبل على ذلك، الفن عناء جميل، وغناء خافت زمن الذبول والذهول.
نعم هكذا نلج عوالم الفنانة هدى رجب التي حرصت على هذا الشغف الجمالي وهي تحيك شيئا من حكاياتنا الشتى بمبتكرها الجمالي لترسمنا في حقل النسيج أصواتا وذواتا أخرى تلهج بالمجد الملون الذي هو الفن. كان ذلك هو فعلها في الحياة الفنية ومن خلال تجربتها منذ حوالي عقدين في العلاقة مع الخيط الرفيع. هذا الخيط الصوفي الذي ينتهي إلى تأليف العمل الفني لتشكيل سمفونية طافحة الوجد والذكرى والحال في تعدد ألوانها، والأصوات. ورد الرماد مثلا والألوان والأشكال التي ترتسم بعد جهد وعناء جميلين. إنها الذات الفنانة إذ تدعو طفولتها لتمنح منسوجاتها شيئا من اعتمالات اللحظة بكل هواجسها الثقافية بكثير من الخبرة الجديدة والمهارات. تلك المهارات البينة في مختلف الأعمال التي أنجزتها.
تعددت معارض الفنانة التشكيلية هدى رجب وفي كل الأعمال المعروضة فكرة بينة لا تبتعد كثيرا عن حكاية يسردها خيط أنارت له طريقا يسلكها لتبرز المنجزات الفنية في حالات من التجريدة التعبيرية التي تقول ولا تقول وتكشف كما أنها تحجب. وهنا عين الإبداع الفني في سياقات الحداثة. تماما كالشعر، كالقصائد الممهورة بما تتركه من ارباك وحيرة ودهشة.

أعمال هدى رجب فيها حرص تعبيري باتجاه صدمة الوعي نشدانا للكامن فينا حيا ووجدانيا. في منسوجاتها أشكال وانسيابات هندسية وخطوط في مساحات لونية مختلفة متناسقة ومتحاورة تجعلنا نتعاطى مع العمل وفق خيط جامع ونظرة شاملة لنقول بخصائص جمالية صارت من مميزات العمل الفني المنجز في سياق التجربة عند هذى رجب. هي فسحة أخرى ترنو إلى الإضافة والاختلاف في طريق الفن الشاقة والطويلة. إنها السفر الحديد في دروب قديمة وصولا إلى التجدد والابتكار.
المنسوجة في أعمال هدى رجب ذهاب إلى غير الرتابة وما ألفته العين وهي تحاور عملا فنيا يقف جسدها قدامه. هو الحوار في تجلياته بين الفنان ومنجزه قبل العمل حيث الانتهاء متخيل يترك للأنامل وأهل الحرفة الصدى. هذا هو عملها. الفنانة رجب أخذت مسألة فن النسيج بقوة ومأخذ جد لتذهب بما هو تقليدي إلى مراتب الإبداع الفني التشكيلي. هذا هو ديدنها فنانة تصبو إلى ما به الفن يكمن في العلامة والسؤال بخيط الجمال الرفيع.
إن صدق الفنان وهو يواجه احتياجات عمله من نظر وجدية ومواد وتخطيط وممكنات نفسية وذهنية وسوسيوثقافية هو بمثابة الخلفية الدالة على عمق العمل والمنجز. والفنانة هدى تعي ذلك وهي تقدم لنا من خلال معارضها في السنوات الأخيرة تجربة مضافة للتجارب المهمة التي ذكرنا بعض أصحابها ودورهم في فن النسيج التونسي المعاصركمجال للإبداع والابتكار والتعبير الحداثي شأنه شأن بقية الأجناس الفنية التشكيلية الأخرى.  

fine arts
حميمية الفن 

نحن إذن إزاء سيرة أخرى للنسيج التونسي ولكن بروح تواقة للكونية غير قانعة بالآفاق المعهودة الضيقة والسريعة. وقد برز ذلك أكثر في تجربة العلاقة المفتوحة على المتلقي المتذوق من خلال المعرض المتنقل بجهات تونسية ومناطق مختلفة ضمن عنوان لافت هو  mé-tissage  لنلمس فكرة التشكيل في الحالة المنسوجة بل هي لعبة هدى رجب للقول بالإبداع التشكيلي ومهاراته المطلوبة في عوالم المنسوجات وفق وعي وحالة روحانية فيها الكثير من الحميمية. إنها حميمية الفن وهو يبتكر أصواته وألوانه ونهجه وأسماءه.
أعمال رجب بمثابة السمفونيات الضاجة بالهدوء والحكمة والكلمات. إنها تكتب القصائد وهي تحلم بعملها. لوحاتها قصائد تعددت خيوطها وألوانها. المجد للأنامل وللفكرة العالية. 
هذا فن يطلب الحكمة وكذلك الشجاعة. هذه الشجاعة التي تنجز الفن. والتي نتطلبها كفنانين مبدعين. مثلما قال لي صديقي الكاتب الكبير باولو كويلهو ونحن نتحاور ذات يوم تونسي مشمس "عند كل صباح علينا أن نتسلح بالشجاعة". 
نعم نمدحك أيتها الشجاعة في الأثر من قدم الإنسان إلى الآن. انظروا آثار الفنانين الكبار في هذا التاريخ الإنساني. إنها الأعمال المسافرة في أمكنة من العالم ووجهاته.