هدية ترامب.. لداعش

من المتوقع كان أن يتوارى تنظيم داعش الذي يُعد خليفة لمقاتلي تنظيم القاعدة الذين حاربوا القوات الأميركية خلال حرب العراق عن الأنظار ذات يوم ويعود إلى جذوره المتمردة.

بقلم: ميكي جيجيلو

توضح سطور هذه القصّة إمكان عودة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” إلى الظهور من جديد. تشهد العراق منذ أسابيع احتجاجات هزت أوصالها، مناهضة للحكومة وعمليات القمع العنيفة من جانب السلطات. وقد أفضى ذلك إلى احتمال أن يتقدم رئيس وزرائها وهو حليف للولايات المتحدة، باستقالته. والآن تُرك الأكراد، وهم شركاء الولايات المتحدة المحليين في سوريا – الذين بذلوا الغالي والنفيس من أجل دحر تنظيم الدولة الإسلامية هناك على حساب آلاف الأرواح البريئة – ليواجهوا بأنفسهم غزواً محتملاً، ومصيراً مجهولاً من قبل تركيا، التي تُعد عدوهم القوي اللدود، وحليفاً مهماً لأميركا في حلف شمال الأطلسي (الناتو).

في سلسلة من الأحداث المُتعاقبة التي رأيناها من قبل، أعلن الرئيس دونالد ترامب فجأة اتخاذه قراراً بالغ الخطورة بشأن سوريا بعدما أجرى مكالمة هاتفية مع نظيره التركي، رجب طيب أردوغان. وصرح هذه المرة بأن القوات الأميركية ستنسحب من مواقعها في شمال شرقي سوريا، ما يُعرض شركاءها في “قوات سوريا الديموقراطية” المعروفة اختصاراً بـ”قسد”، والتي يقودها الأكراد، للخطر وذلك بالسماح لأردوغان بشن غزو طال انتظاره لأراضيهم. (إذ يسعى أردوغان إلى إبعاد الأكراد من معاقلهم القريبة من الحدود التركية لأنه ينظر إليهم باعتبارهم إرهابيين).

أثار تحرك ترامب ردود فعل عنيفة من الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الكونغرس، ما دفعه إلى التعهد في تغريدة على “تويتر”، بأنه سيستخدم “حكمته العظيمة التي لا مثيل لها” لضمان عدم قيام تركيا بأي شيء “غير مسموح به”. بيد أن “قوات سوريا الديموقراطية” لا تزال تستعد لغزو محتمل، وحذرت بالفعل من أن التهديد التركي المفاجئ، من شأنه أن يقوض عملياتها المضادة لتنظيم الدولة الإسلامية. قد لا يكون ذلك سوى دعوة إلى الفوضى، وأساس لوقوع كارثة في المستقبل – كما أن تنظيم الدولة الإسلامية، الذي لطالما وضع رؤية طويلة الأمد لنضاله مع أميركا وحلفائها، ما كان له أن ينسج خيوط فصل جديد من تلك المؤامرة التي ستُفضي إلى عودته مرة أخرى على نحو أفضل من ذلك.

طوال الجزء الأكبر من الحرب الأميركية ضد ما يسمى بخلافة “داعش”، كان من الواضح أن الدولة البدائية المتطرفة التي سعى تنظيم “داعش” إلى تأسيسها في جميع أنحاء سوريا والعراق لم تكن لديها فرصة كبيرة للاستمرار والبقاء. إذ لم يكن أمام المسلحين أي سبيل لمواجهة حملة القصف الجوي القاسية التي شنتها القوات الأميركية، فضلاً عن أنهم واجهوا عدواً كرس جهوده لمقاومتهم في صفوف الجنود المحليين المدعومين من الولايات المتحدة والذين قاموا بمعظم عمليات القتال البري. ولذا كان من المتوقع أن يتوارى تنظيم “داعش”، الذي يُعد خليفة لمقاتلي تنظيم القاعدة الذين حاربوا القوات الأميركية خلال حرب العراق، عن الأنظار ذات يوم، ويعود إلى جذوره المتمردة. وفي النهاية، سيترك الأمر للشركاء المحليين للولايات المتحدة لمواصلة الضغط وضمان هزيمة التنظيم بصورة دائمة.

تكبد هؤلاء الجنود المحليون – الأكراد في سوريا والجيش العراقي ومختلف القوات الأخرى – آلاف الضحايا. وكان بوسع أميركا، بمجرد هزيمة الخلافة الإقليمية، أن تركز على إعادة بناء تلك القوات، فضلاً عن إعمار المناطق التي تعرضت للقصف الشديد، وأصبحت الآن مكلفة بالحفاظ على السلام فيها. فوفقاً لتقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” هذا الصيف، لا يزال لدى تنظيم “داعش” ما يصل إلى 18000 مقاتل في مختلف أنحاء العراق وسوريا، وكثر منهم مُنظمون في خلايا نائمة وفرق مقاتلة، تقوم بعمليات نصب الكمائن والاختطاف والاغتيالات في البلدين.

اتسم الدعم الأميركي المتواصل بأهمية خاصة لـ”قوات سوريا الديموقراطية” التي يبلغ عدد مقاتليها حوالى 60 ألف في الركن الشمال الشرقي للبلاد. ويواجه الأكراد تهديدات مستمرة، ليس من تنظيم “داعش” وحسب، بل أيضاً من جارتهم المعادية إلى الشمال في تركيا وكذلك النظام السوري، الذي تعهد باستعادة كامل أراضيه المفقودة يوماً ما. كما تحتجز “قوات سوريا الديموقراطية” عشرات الآلاف من المشتبه بانتمائهم إلى تنظيم “داعش” وأسرهم، بمن فيهم حوالى 70 ألف امرأة وطفل في المخيم المشهور في بلدة الهول السورية، والذي أصبح مرتعاً لتجنيد المقاتلين لتنظيم داعش.

اتسم الدعم الأميركي المتواصل بأهمية خاصة لـ”قوات سوريا الديموقراطية” التي يبلغ عدد مقاتليها حوالى 60 ألف في الركن الشمال الشرقي للبلاد.

بدلاً من فعل أي من ذلك، ترك ترامب “قوات سوريا الديموقراطية” لمصير مجهول في مواجهة الغزو التركي، مُهدداً بإنهاء وجودها ذاته. وفي الوقت نفسه، أعلن البيت الأبيض يوم الأحد الماضي أن تركيا ستتولى السيطرة على جميع السجناء الموجودين في حوزة “قوات سوريا الديموقراطية” – وهو احتمال غير مؤكد بالنظر إلى تاريخ تركيا المُتقلب عندما يتعلق الأمر بملاحقة المُسلحين وقمعهم.

فقد انضم مقاتلون أجانب من مختلف أنحاء العالم إلى تنظيم “داعش” عبر الحدود التركية – السورية الممتلئة بالثغرات والتي يسهل اختراقها. علاوةً على ذلك، أرسل تنظيم “داعش” إرهابيين إلى أوروبا عبر طرق المهاجرين من تركيا، وفي بعض الأحيان، سُمح للمهربين باستخدام هذه الطرق من دون تعرضهم لأي تضييقيات نسبياً. (بل في الواقع، استغل أردوغان تدفقات المهاجرين على نحو متكرر وسيلة للضغط خلال المفاوضات مع أوروبا، وأطلق تهديده الأخير بـ”فتح الأبواب أمام اللاجئين” الشهر الماضي). صاحب انهيار خلافة تنظيم داعش، هروب العديد من عناصره من سوريا إلى تركيا بحثاً عن الأمان. ولذا تحوم الشكوك حول فكرة نجاح تركيا في التعامل مع هؤلاء السجناء، بما في ذلك المقاتلين الأجانب، نظراً إلى فشل تركيا في اتخاذ إجراءات صارمة كافية للقضاء على خلايا التنظيم والشبكات الإجرامية والمالية التابعة له داخل حدودها.

تدل المشكلات التي تواجهها تركيا في التعامل مع “داعش” جزئياً على مدى الاضطراب الذي أصاب الاستقرار التركي بسبب الحرب الأهلية الطويلة في سوريا. إذ تستضيف تركيا 3.6 مليون لاجئ سوري، وهو ما يجعلها أكثر بلد يستضيف لاجئين في العالم. وفي الوقت نفسه، ابتليت تركيا بالتصدعات الداخلية والاضطرابات التي عصفت بأجهزة الأمن والاستخبارات. فضلاً عن مسألة أخرى تتعلق بالأولويات، إذ ينشغل أردوغان بالقتال ضد الأكراد أكثر من اهتمامه بكبح جماح “داعش”.

يُلخص ذلك العوامل الفاعلة المتغيرة التي تتلاعب بخيوط المشهد التركي، فقد دفع أردوغان ترامب دفعاً لإعطائه الضوء الأخضر في هجومه المخطط له. يرتبط أكراد “قوات سوريا الديموقراطية” ارتباطاً وثيقاً بحزب العمال الكردستاني، وهو جماعة مسلحة كردية انفصالية متطرفة، تقود حركة التمرد في جنوب شرق تركيا. وبسبب هذه العلاقات التي لا يمكن إنكارها، لطالما نظر أردوغان إلى “قوات سوريا الديموقراطية” على أنها تُمثل تهديداً، فضلاً عن أن الدعم الأميركي المستمر لها أدى إلى توتر العلاقات الأميركية – التركية. وعلى رغم استمرار تركيا في محاربة “داعش” بين الحين والآخر، فقد كانت “قوات سوريا الديموقراطية” من أكثر القوى فاعلية في قتال التنظيم.

كما قادت “قوات سوريا الديموقراطية” الهجوم للسيطرة على مدينة الرقة السورية، التي كانت عاصمة “داعش” في وقت ما، وغيرها من المناطق الرئيسية. لا تزال هذه القوات تُمثل أهمية بالغة لأهداف الولايات المتحدة لاحتواء “داعش”، ولا تزال تستضيف القوات الأميركية الخاصة الموجودة في سوريا التي تتلخص مهمتها في تعقب عناصر “داعش”. ولذا يهدد الغزو التركي بإفساد كل هذه الترتيبات.

قال جوشوا جيلتزر، المدير السابق لإدارة مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي في الفترة ما بين عامي 2015 و2017، في إشارة إلى أن أردوغان “يختار أولوياته في مكافحة الإرهاب على أولوياتنا”.

ولزيادة الطين بلة، تعهد أردوغان باستخدام المناطق التي تستولي عليها تركيا لإعادة توطين ما لا يقل عن مليون لاجئ سوري، ما يخلق حاجزاً بين “قوات سوريا الديموقراطية” والحدود التركية. على رغم أن أردوغان حاول أن يروج لهذه الخطة باعتبارها جهداً إنسانياً، فإنه يخاطر في الحقيقة بطرد السكان من ذوي الأغلبية الكردية واستبدالهم بشعب عربي في الغالب. وكما أشار ريان جينجيراس ونيك دانفورث، وهما باحثان مهتمان بالشأن التركي، سيلقى الناس في شمال شرقي سوريا، ما لقيه غيرهم على مر تاريخ تركيا المظلم الذي يعج بحوادث طرد الأكراد والأقليات الأخرى من أوطانهم.

أوضح نيكولاس هيراس، المتخصص في شؤون سوريا و”داعش” في مركز الأمن الأميركي الجديد، أن “موضوع المنطقة الآمنة لا يربو عن كونه تطهيراً عرقياً، عندما نتحدث عن هذا الأمر، بالنسبة إلى تركيا الأمر لا يتعلق بـ”داعش”. لقد أظهروا ذلك بشكل واضح. يتعلق الأمر بأمن الحدود، وبمخاوفهم السياسية الداخلية المتعلقة بعبء اللاجئين الذين لم تعد لدى الكثير من المناطق الحدودية التركية، وسائل لرعايتهم بعد الآن”.

وأشار إلى أن التوغل التركي في مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية في العام الماضي، أدى إلى نزوح ما لا يقل عن 100 ألف شخص، معظمهم من الأكراد، من المنطقة. وأضاف أن الصراع بين تركيا و”قوات سوريا الديموقراطية”، قد يتولد عنه نزوح عشرات الآلاف من اللاجئين الذين سيتدفقون جنوباً إلى كردستان العراق، ما سيزيد من عدم الاستقرار في العراق.

أعرب هيراس، الذي يُقدم تقارير موجزة للمسؤولين الأميركيين بانتظام حول الصراع السوري، أن هذه التداعيات وغيرها من العواقب الأخرى المحتملة لقرارات ترامب تبدو غير مدروسة، بدءاً من الطريقة التي ستتعامل بها تركيا مع سجناء “داعش”، ووصولاً إلى كيفية استجابة الولايات المتحدة إذا تورط  شركاؤها الأكراد في صراع مع تركيا.

بعث الجمهوريون في الكونغرس برسالة واضحة مفادها أنهم سيتصدون لقرار ترامب، وأشار هيراس إلى أن أردوغان سيتأنى في اتخاذ هذه الخطوة، على الأقل حتى زيارته المُقررة إلى البيت الأبيض الشهر المقبل. بيد أن قرار ترامب المفاجئ بسحب القوات الأميركية من سوريا في كانون الأول/ ديسمبر – والذي أدى إلى استقالة وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس بسبب مخاوف تخلي الولايات المتحدة عن شركائها الأكراد – تراجع عنه جزئياً في نهاية المطاف بعد المعارضة التي أبداها الجيش الأميركي ومؤسسات أخرى في الحكومة.

لكن كما ذكرت المقالة التي نشرتها صحيفة “التايمز”، فإن القرار دفع القوات الأميركية لتخفيف وتيرة عملياتها ضد “داعش” في سوريا. وعلق مصير “قوات سوريا الديموقراطية”، التي يعتمد بقاؤها على الوصول إلى تسوية ليس فقط مع تركيا ولكن مع النظام السوري، في حالة من اللايقين بسبب تعهد ترامب بسحب قواته. مهما كانت النتيجة هذه المرة، فقد تزعزع موقف حلفاء أميركا في حربها ضد “داعش” مرة أخرى – وعليهم أن يبدأوا مواجهة حقيقة وأن يخوضوا هذه الحرب وحدهم عاجلاً أم أجلاً، فقد وعد ترامب بسحب الولايات المتحدة من الحروب الأبدية التي دخلتها. يظل السؤال المطروح هو مدى قدرتهم على الصمود بمفردهم أمام عودة “داعش”، في ظل الظروف الفوضوية ذاتها التي سادت العراق وسوريا وأدت إلى عودة “داعش” عام 2014.

نشر في صفحة درج