"هز القحوف" يكشف النهب العثماني لخيرات مصر

"هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف" للشيخ يوسف الشربيني الأزهري يعد من الكتب النادرة للغاية التي تناولت الريف المصري وأحوال فلاحيه في القرن 17.
الكتاب يصف حياة الفلاحين وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم بدقة شديدة
الشيخ الشربيني كان قديرا وجريئا على نقد وكشف وسائل النهب العثماني لخيرات مصر وجهد أبنائها من الفلاحين على وجه الخصوص

يعد هذا الكتاب "هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف" للشيخ يوسف الشربيني الأزهري، والذي حققه وقدم له عبدالعزيز جمال الدين، من الكتب النادرة للغاية التي تناولت الريف المصري وأحوال فلاحيه في القرن السابع عشر الميلادي تحت وطأة الحكم العثماني، حيث يصف حياة الفلاحين وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم بدقة شديدة، هذه الحياة التي واجهت أحيانا ورضخت أحيانا كثيرا للظلم والبطش والذل والسلب والنهب الذي كانت تفرضه سلطات العثمانيين، الأمر الذي انعكس سلبا على أخلاق وعادات وتقاليد الفلاح المصري. ووفقا للمحقق فإن الكتاب من الناحية النوعية يعد في تراث الكتابة المصرية رائدا في هذا المجال، وهذا ليس بغريب خاصة إذا عرفنا أن الفلاحة والفلاح يعدان عماد الحياة المصرية منذ ثورتهم الزراعية الأولى في فجر التاريخ.
لقد ابتكر الكاتب الشيخ شخصية وهمية لا وجود لها هي "أبو شادوف" وابتكر على لسانه قصيدة تكون معظم أبياتها بالعامية وأقلها بالفصحى، وهو الأمر الذي جعل الكتاب ـ كما أشار د.كمال مغيث ـ متسقا مع لغة العصر وثقافته، فذلك المزج بين العامية والفصحى كان هو السائد عند كبار كتاب ومؤرخي تلك العصور كالمقريزي وابن إياس والجبرتي.
يشير عبدالعزيز جمال الدين محقق الكتاب الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة إلى أن الشيخ الشربيني نظرا لاشتغاله بالوعظ وتجولاته الكثيرة في الريف، كان على صلة قوية بعادات أهل الريف وأطعمتهم وأدواتهم وملابسهم وثقافتهم بشكل عام. وكان يدرك الظلم الذي يعيشه أهل الريف في ظل ملتزمي ووكلاء السلطان العثماني، مما شكل دافعا آخر لتأليف هذا الكتاب. وتجب الإشارة إلى أن الشيخ الشربيني كان قديرا وجريئا على نقد وكشف وسائل النهب العثماني لخيرات مصر وجهد أبنائها من الفلاحين على وجه الخصوص، فهو رغم ما ألصقه من ألفاظ سيئة بأهل الريف إلا أنه استطاع في الوقت نفسه أن يظهر الظلم الواقع عليهم من أجهزة الإدارة العثمانية والعاملين بها.

المحقق  يشير إلى أن الشيخ الشربيني يخلط في شرح قصيدته الجد بالفكاهة والتاريخ بالأسطورة والمعقول باللامعقول

ذكر الشربيني أنه أنجز هذا الكتاب متوخيا الحرص من بطش أصحاب السلطان "فالشخص يكون مع زمانه بحسب حاله، يداري وقته بما يناسب لأحواله، ويكون حذرا من دهره وصولته، ويرقص للقرد في دولته، ويعاشر الناس على قدر أحوالهم، ويدور معهم وينسج على منوالهم، ويندرج في مدارج خلاعتهم ويظهر في مظاهر براعتهم كما قال بعضهم:
ودارهم ما دمت في دارهم
وحيهم ما دمت في حيهم
وأحسن العشرة مع بعضهم
يعينك البعض على كلهم
ويرى المحقق أن الشربيني في ذلك مدرك لمزاج عصره، الذي أصبح لا يميل إلى سماع الفكر الجاد، نظرا للهموم التي كبلت هذا المزاج، وشلت حركته ومن هنا كانت تسميته للكتاب "هز القحوف بشرح قصيدة أبي شادوف" فيقول "وقد سميت هذا الشرح هز القحوف بشرح قصيدة أبي شادوف وأطلب من القريحة الفاسدة، والفكرة الكاسدة الإعانة على كلام أعرفه من بنات الأفكار، وأسطره من فشار، وأن يكون من بحر الخرافات والأمور الهباليات والخلاعة والمجون، فقد يلتذ السامع بكلام فيه الضحك والخلاعة، ولا يميل إلى قول فيه البلاغة والبراعة، لأن النفوس الآن متشوقة إلى شيء يسلبها من الهموم ويزيل عنها وارد العموم:
ففي مذهبي أن الخلاعة راحة تسلى
هموم الشخص عند انقباضه
ولكن يجب علينا ألا ينسينا مثل هذا القول أن الشيخ الشربيني كان حريصا دائما على أن يذكر العديد من العبارات التي يشعر القارئ أن فيها تصويرا لحال الفلاح والظلم الواقع عليه. مثل خوفه الشديد والدائم من انكسار مال السلطان عليه، وكأنها سوط ينهش بدنه يذكره دوما وينهاه عن فعل أي شيء قبل أن يسدد مال السلطان. كما يذكر كثيرا في ثنايا حكاياته، بعض مظاهر القسوة التي يرتكبها رجال الإدارة العثمانية مع الفلاحين وهجر هؤلاء لقراهم "تسحب الفلاحين" ومزارعهم خوفا من العقاب الذي لا يتوقف حتى في أوقات القحط وانعدام المحاصيل، فالابن يفر هاربا إذا انكسر مال السلطان على أبيه، وإلا أخذ  رهينة حتى يغلق أبواه ما عليه من مال".
ونقل المحقق عن د.شوقي ضيف قوله عن الشربيني وكتابه: نجد مصر حين يجثم على أنفاسها كابوس دولة أجنبية تنفس عن همها وغمها بالفكاهة الساخرة على نمط ما صنع ابن مماتي بقراقوش في كتابه "الفاشوش" وعلى نمط ما يصنع الآن يوسف الشربيني وهو لا يتخذ من شخصية بعض العثمانيين أو المماليك ما يريد من هزل وسخرية. فقد كان الحكم العثماني قاسيا، وكان الناس لا يستطيعون أن يعرضوا فيه لحاكم بالتشهير فضلا عن الفكاهة والتندير، ومن أجل ذلك ارتد الشربيني إلى الشعب يصور ما هو عليه من فقر وجهل في أسلوب لاذع من السخرية والتهكم. وصور أثناء ذلك ظلم الكشاف والملتزمين ومن يجمعون الأموال والضرائب، كما صور نظام السخرة.
ويوضح المحقق أن الشيخ يوسف الشربيني وضع كتابه في حوالي القرن السابع عشر حيث رأى تعاسة أهل الريف فنظم قصيدته بلغة عصره ولم يكتف بالقصيدة بل ذهب يشرحها على طريقة معاصريه في شرح القصائد التراثية، واختار لها "هز القحوف" والقحف هو العظم الذي فوق الدماغ، أو ما نسميه في أريافنا "الطاسة" وهو إناء من خشب مثل قحف الرأس كأنه نصف قدح، وينطق بفتح الألف في اللغة المصرية فتصبح "أحف". وهو إناء من خشب مثل قحف النخل المجرد من خوصه، كما يطلق على من كان ذا جلافة، وقد اختلق أهل الريف المصري شخصا باسم أبي شادوف للسخرية منه. يطرفنا الشيخ الشربيني بمعنى اصطلاحي للكلمة، ويعطينا مدلولا تاريخيا مصريا لها فيقول "إن القحف شيء طويل يعمل من الصوف أو الشعر ويلبس على الرأس وليس له زي ولا هندام..." ثم يحدثنا عن "الخلبوصي" وهو راقص الزفة الذي ينادي في الأفراح ويجمع ما يجود به المدعوون. ويقول إن غالب الخلابيص "يلبسون شيئا يقال له الطرطور ويضعون فوقه القحف لأنه واسع من جهة الرأس وضيق من أعلاه وقصير عن الطرطور"، وقال "يسمى قحفا لقحافته ويبسه".    

ويضيف "يكتب الشربيني نصه بمستويين من داخل اللغة المصرية، الأول هو النصوص التي ينطق بها أهل الريف وغالبية المصريين خاصة في ريف دلتا مصر وقت تأليفه لكتابه، تمثلها القصيدة الأساسية التي يدور حولها الكتاب، وهي لغة الحياة اليومية التي تحتك بالعناصر المادية والفكرية عند الجماعة المصرية الريفية، والتي يتم تصعيدها كمفردات وصياغات إلى المستوى الثاني للمؤلف، لكي تكتب بها النصوص المتفاصحة ويظهر ذلك في بعض الأشعار التي ينسبها لنفسه".
تقع قصيدة أبي شادوف في بضعة وأربعين بيتا، تتناول تشخيص حياة أهل الريف، ويعزو سوء أخلاقهم لكثرة مصاحبتهم للبهائم، ويختتم بأرجوزة طويلة يقول الشيخ في أولها:
قال الفقير يوسف بن خضر
لله حمدي دايما وشكري
ثم الصلاة والسلام أبدا
على رسول الكريم أحمدا
وبعد إني ناظم أرجوزة 
لطيفة مفيدة وجيزة
تخبر عن حال ذوي الرذالة 
كذا عوام الريف لا محالة
فخذ هداك الله ما أقول 
في نظمها وعنه لا تحول
إذ أردت وصف أهل الريف 
أهل الشقاء وذوي القحوف
والقصيدة تستمد قيمتها من عرضها للحياة في هذه العهود.
ويشير المحقق إلى أن الشيخ الشربيني يخلط في شرح قصيدته الجد بالفكاهة والتاريخ بالأسطورة والمعقول باللامعقول وحين يعرض لأطعمة أهل الريافة، يحدثنا عن الفول وطرق تدميسه وطبخه، وكيف يوقد عليه فتفوح أبخرته من القدر، ويحدثنا عن البصارة ضاربا عرض الحائط بأنها كلمة مصرية عريقة، فيحللها وفقا لمعجمه الأزرق إلى مقطعين، هما: أبي ـ سار، فيربطها ـ على لسان طفل القرية ـ بفكرة رحيل أبيه عن القرية، ولعل هذا التفسير العبثي ينطوي على سياق اجتماعي مهم، وهو ارتباط الطعام في وعي المؤلف بفكرة السير والهروب من القرية تسحبا من بطش الحياة. ولا يعدم الشربيني حيلة في تبرير تفسيراته الغريبة، فيقول إن أبا قردان أول من اخترع تسمية الملوخية، شارحا كيفية طبخها بالدجاج والأرانب، واصفا مذاقها... إلخ. ويزعم أنه ينقل معارفه عن ابن سودون وهو من هو في شعر العبث، الذي يعد استجابة لحالة الفوضى والنهب الذي لا تحده حدود سواء في مواعيده أو حجمه والضنك والقهر وقلة الحيلة أليس هو القائل:
عجب عجب عجب عجب
بقر تجري ولها ذنب
والوزة ليس لها قتب