هكذا قضم الإخوان ثروات السودان

في خضم جهود البشير الفاشلة لمحاربة الفساد حصل أثرياء الحكومة على فتوى التحلل الدينية التي تعيد الاعتبار لذواتهم المتهمة بنهب الأموال العامة وتقر الفتوى استرداد جزء من المال المسروق لتبرئة ذمة السارق.

بقلم: يوسف حمد

في اليوم الأخير من شهر يونيو/ حزيران 1989 بدأ انقلاب عمر البشير على نظام الحكم الديمقراطي في السودان، وعلى البنية الاقتصادية السائدة أيضا. كان الانقلاب عنيفا في كل شيء، لكنه واعد بالنسبة لطبقة من المدنيين انتظموا في تنظيم "الإخوان المسلمين" الذي كان يتخذ وقتها اسم "الجبهة الإسلامية القومية" ويقوده حسن الترابي، المدبر الرئيسي للانقلاب. سرعان ما احتكر تنظيم الإخوان الدولة بعدة طرق وأخذ يتنفس من رئتها حتى سقوط حكومتهم بانتفاضة شعبية في أبريل/نيسان الماضي.

تغيير العملة والتمكن من الكتلة النقدية

بدأ الانقلاب المسنود من الجبهة الإسلامية القومية أول قراراته الاقتصادية المؤثرة في العام 1991، حين قام بتغيير العملة في طبعة جديدة، من (الجنيه) إلى (الدينار). واستهدف القرار جمع السيولة المتداولة خارج النظام المصرفي وإدخالها إلى المصارف.

وبإجراءات تبديل العملة نجحت حكومة الانقلاب في التمكن من الكتلة النقدية، وفي الوقت نفسه، محاربة الصفوة الاقتصادية القديمة الموجودة في البلاد سابقا، الأمر الذي أقصى غير الموالين من المنافسة الاقتصادية وأصابهم بالإفلاس، حيث اختفت أو تراجعت أسماء اقتصادية لامعة، مثل الشيخ مصطفى الأمين وأبو العلا وقرنفلي.

أثرياء الإخوان الجدد.. وأشقاء البشير

وقال الخبير الاقتصادي علي سعيد: إن أربعة آلاف مصنع أغلقت في السودان خلال الثلاثين سنة الماضية لصالح سياسات حكومة البشير الاقتصادية وأفراد ينتمون إلى تنظيم الجبهة الإسلامية.

وفي مقابل الأسماء التي اختفت من المشهد الاقتصادي، لمعت أسماء لأثرياء جدد، مثل جمال الوالي وعبد الحليم المتعافي ومأمون حميدة، الأعضاء في حزب المؤتمر الوطني الذي كان يترأسه الرئيس المعزول عمر البشير، إلى جانب أشقائه علي وعبد الله، وزوجته الثانية وداد بابكر، المتهمة لدى الرأي العام بإدارة استثمارات ضخمة داخل وخارج البلاد، لكن لم توجه إليها تهمة رسمية بعد.

فيما بقيت أرصدة نافذين مثل علي عثمان، نائب البشير الأسبق، ومساعده ونافع علي نافع، ووزير الطاقة والتعدين عوض الجاز، ووالي الخرطوم عبد الرحمن الخضر، والآخرون من أعضاء الحكومة طي الكتمان وبعيدة عن التداول الإعلامي. لكن ما هو معلوم بين السودانيين أنهم جميعا انحدروا من أسر فقيرة قبل مجيء انقلاب تنظيم الإخوان المسلمين إلى السلطة.

شبهات الفساد

وأظهر تقرير أعده خبراء سودانيون في يونيو/ حزيران الماضي، امتلاك أعضاء في النظام السابق وحلفائهم أكثر من 100 كلية جامعية بالعاصمة الخرطوم، حصلت على تصريحات بالمزاولة رغم افتقارها للمواصفات. ورغم شبهة الفساد البادية على أفراد الحكومة السابقة، فإن إثباته يتطلب تحقيقات دقيقة من لجان مدربة، بحسب ما أكد القانوني نصر الدين حسن، وأضاف: "النيابات العامة في السودان غير مؤهلة حاليا للتحقيق في جرائم الفساد المالي والإداري التي ارتكبت على مدى ثلاثين سنة".

حلقة البشير.. 100 ثري

يذكر أن التقارير الإعلامية تشير إلى أن الثراء الفاحش تركز أخيرا في نحو مئة شخصية تلتف حول البشير. ويوم الخميس الماضي، سير الآلاف من السودانيين بالعاصمة الخرطوم موكبا إلى القصر الرئاسي وسلموا فيه مذكرة لمجلس السيادة تطالب بالتعجيل في تعيين نائب عام ورئيس للقضاء خاصين بالفترة الانتقالية للتعجيل في بدء التحقيقات المتعلقة بنهب المال العام وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها نظام البشير.

  600  شركة تجارية

وفي هذا السياق، أشار الباحث حافظ أحمد عبدالله من جامعة الخرطوم، إلى امتلاك قادة الجبهة الإسلامية لما يقارب 600 شركة تجارية في وقت وجيز من انقلابهم، أخذت تعمل في مجالات الاستيراد والتصدير والأراضي والطرق والجسور والمقاولات وتشييد السكن الفاخر والشقق السكنية. ولاحقا اجتاح العاصمة والمدن الرئيسية انفجار في المعمار خاصة بعد تدفق عائدات البترول الذي تم تصديره لأول مرة في العام 1997.

أثناء عملية تبديل العملة في 1991 قررت الحكومة الانقلابية تحميل كلفة التغيير لأولئك المواطنين الذين سعوا لتبديل عملتهم في المصارف، وقامت بخصم 2% من أرصدتهم، وحجز 20% من كل رصيد يزيد عن 100 ألف جنيه (حوالي 300 دولار في ذلك الوقت)، وساهمت تلك الخطوات في تكوين نخبة اقتصادية غلب عليها الولاء السياسي، واستفادت من الإعفاءات الجمركية التي كانت تمنح لفئة سياسية معينة. وتراكمت لديها ثروة بالاستيلاء على أصول القطاع العام عن طريق البيع والإيجار، كما يشير حافظ عبد الله الذي أنجز رسالة ماجستير حول "النخبة الاقتصادية الجديدة في السودان".

بنك فيصل الإسلامي

قبل انقلاب البشير بسنوات، وإبان حقبة الرئيس النميري (1969- 1985) أخذت الجبهة الإسلامية القومية تتمدد قليلا، وأصبح بإمكانها التوغل في الحياة السياسية رويدا رويدا، مستفيدة من الزخم الذي حصل عليه زعيمها حسن الترابي في ثورة أكتوبر (1964). لكن الترابي خطط بطريقة أخرى لما هو أبعد، إذ كشفت صحيفة الميدان التابعة للحزب الشيوعي السوداني (الخصم اللدود للإخوان) في العام 1981عن مساهمة حسن عبد الله دفع الله (الترابي) في بنك فيصل الإسلامي بـ 300 ألف دولار عند تأسيسه في العام 1977. ويقول الخبير الاقتصادي علي سعيد إن هذا المبلغ لم يكن ليتناسب مع وضع الترابي الذي عرف وقتها بأنه سياسي ناهض وأستاذ للقانون في جامعة الخرطوم. وأسس البنك بقرار جمهوري صادر عن رئاسة الجمهورية إبان تحالف الجبهة الإسلامية مع جعفر النميري فيما عرف بالمصالحة الوطنية 1978.

وقال مقترح صادر من خبراء بشأن إدارة الفترة الانتقالية، إن ما يقارب 700 شركة تقع في وضع رمادي وتجنب أموالها بعيدا عن الخزانة العامة. وربما تأتي تهمة البشير التي يقف بها أمام المحكمة نموذجا لتجنيب وإدارة الأموال، حيث توجه له تهمة الآن بحيازة مبالغ قيمتها 6,9 مليون يورو، و351,770 دولار، و5,7 مليون جنيه سوداني وجدت داخل منزله.

فساد متفشٍّ.. وإخفاء عائدات البترول

إلى ذلك، أشار تقرير المراجع في العام 2004، قبل عام واحد من توقيع اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية، إلى أن جرائم الفساد واختلاس المال العام شملت كل الجهاز الحكومي، وقفز الفساد من 4.4 مليار جنيه عام 200 إلى 32.2 مليار جنيه في 2004.

كما أوضح الخبير الاقتصادي محمد خطاب الذي يشارك في صياغة رؤية اقتصادية حكومية لإدارة الفترة الانتقالية أن نظام الجبهة الإسلامية نجح بصورة كبيرة في إخفاء عائدات البترول الذي بدأ تصديره في أواخر التسعينيات من القرن الماضي.

وأكد لـ"العربية.نت" أن نتائج التحقيقات التي يجريها مع الآخرين أشارت إلى وجود تزوير واسع النطاق في المنتج من البترول وأسعار البيع خلال العشرين سنة الماضية. وقال خطاب إن الجزء الكبير من عائدات النفط ظل في بنوك خارج السودان بدواعي المقاطعة الأميركية لنظام عمر البشير.

في العامين 2012- 2018، ابتدر البشير مشروعين منفصلين لمحاربة الفساد، لكن أيا منهما لم يكن فعالا في كبحه، حيث ارتفع الفساد بنسب كبيرة أظهرتها تقارير المراجع العام السنوية (جهة حكومية) المقدمة للبرلمان، وقال رئيس آلية الفساد وقتها الطيب أبو قناية لوسائل الإعلام إن "أي عملية فساد بها عشرات المطبات"، مشيرا إلى "تعدي البعض على ممتلكات الدولة وتحويلها إلى ملكيتهم".

أظهر تقرير المراجع العام 2018، نسبة فساد تفوق 90%، ذكر أنها موجودة حتى في وزارة المالية نفسها، لكن الجهات العدلية المختصة أو البرلمان لم تحقق في الاتهامات.

فتوى (التحلل) الدينية

في خضم جهود البشير الفاشلة لمحاربة الفساد حصل أثرياء الحكومة على فتوى (التحلل) الدينية المصاغة في قانون (الثراء الحرام والمشبوه) تعيد الاعتبار لذواتهم المتهمة بنهب الأموال العامة، وتقر الفتوى استرداد جزء من المال المسروق لتبرئة ذمة السارق. لم تفلح الفتوى في استرداد سوى 17 مليون جنيه من موظف صغير في مكتب والي الخرطوم وقتها عبد الرحمن الخضر، أدين بواسطة لجنة تحقيق في التصرف في قطع أراضٍ، قبل أن يلقى الموظف حتفه في حادث سير. وتسلط الواقعة الضوء على أحجام مهولة من التجاوزات والتلاعب في الأراضي.

نصت الوثيقة الدستورية الموقعة بين (قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري) في أعقاب الإطاحة بالبشير على صلاحية رئيس الوزراء في تكوين مفوضية لمحاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة، لكن سيكون هذا الطريق طويلا كما يقول القانوني نصر الدين حسن.

نشر في صفحة العربية نت