هل بقي شيء من أوسلو؟

بعد ثلاثين عاما على أوسلو، يتبيّن أنّ "أبو مازن" لم يكن يوما في مستوى قيادة مرحلة ما بعد ياسر عرفات الذي كان على خلاف عميق معه.

بعد ثلاثين عاما على توقيع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض بين ياسر عرفات واسحق رابين برعاية الرئيس بيل كلينتون، يمكن التساؤل هل بقي شيء من هذا الاتفاق؟ يبدو مثل هذا التساؤل في محله في ضوء عاملين مهمين. أولهما محاربة اليمين الإسرائيلي له والآخر سلسلة الأخطاء التي ارتكبها الجانب الفلسطيني. آخر هذه الأخطاء الكلام الصادر عن محمود عبّاس (أبو مازن) رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الذي يبرّر فيه الحملة التي تعرّض لها اليهود في أوروبا، بما في ذلك المحرقة التي ارتكبها هتلر في حقّ هؤلاء. هل اتخذ "أبو مازن" هذا الموقف، الذي سبق أن اتخذ شبيها له في الماضي القريب، للمزايدة من أجل المزايدة بعدما تجاوز الـ87 من العمر؟

ثمة من يقول أنّ الرجل نادم على دوره الحاسم في التوصل إلى اتفاق أوسلو وثمة خبثاء يعتبرون أنّه ربما يريد التغطية، بشكل مسبق، على تنازلات سيجد نفسه مضطرا إلى القيام بها في الأشهر القليلة المقبلة.

في 24 آب – أغسطس الماضي، قال محمود عباس أمام المجلس الثوري لحركة فتح في رام الله: "يقولون أنّ (أدولف) هتلر قتل اليهود لأنّهم يهود، وإنّ أوروبا كرهت اليهود لأنّهم يهود". أضاف "هذا ليس صحيحاً"، معتبراً أنّ الأوروبيين "قاتلوا (اليهود) بسبب دورهم الاجتماعي، وبسبب الربا والمال، وليس بسبب دينهم".

لا يصدر مثل هذا الكلام، غير المقبول عالميا، الذي يبرّر فيه "أبو مازن" اضطهاد اليهود في أوروبا، وألمانيا على وجه التحديد، بسبب تعاطيهم في الشأن المالي وما له علاقة بـ"الربا" عن اشخاص طبيعيين. الأهمّ من ذلك كلّه، أن هذا ليس وقت مثل هذا الكلام الذي جاء قبل أيّام من ذكرى توقيع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض والمصافحة التاريخيّة بين ياسر عرفات واسحق رابين الذي ما لبث أن دفع حياته ثمن هذا التوقيع. لم تكن الخطوة الأخيرة لرئيس السلطة الوطنيّة خطوة موفقة. الخطوة، بكلّ صراحة هديّة من السماء لبنيامين نتانياهو الذي يقف على رأس الحكومة الأكثر يمينية وتطرّفا في تاريخ إسرائيل... والذي وقف منذ البداية ضدّ أوسلو. اكثر من ذلك، حرّض "بيبي" علنا على اغتيال اسحق رابين الذي قضى على يد يميني متطرّف يدعى ييغال عمير في الرابع من تشرين الثاني – نوفمبر 1995.

ليس لدى "أبو مازن" ما يخجل منه بسبب أوسلو. ليس مضطرا في نهاية حياته السياسية لتوفير هديّة لبنيامين نتانياهو واليمين الإسرائيلي واعطائهما صكّ براءة. في النهاية، الرئيس الحالي للسلطة الوطنيّة الفلسطينية التي ولدت من رحم أوسلو، ليس مسؤولا عن فشل الاتفاق الذي لم يكن واردا أن يرى النور لولا موافقة ياسر عرفات ومباركته له، على الرغم من أن كثيرين يعتقدون أنّه لم يقرأه بدقة ولم يغص في تفاصيله. رأى "أبو عمار" في اتفاق أوسلو اعترافا إسرائيليا بمنظمة التحرير الفلسطينية التي لا تزال مرجعية الاتفاق... كما رأى، أن أوسلو بوابة لدخول واشنطن من الباب الواسع، من باب البيت الأبيض. حصلت سلسلة من الأخطاء أدّت إلى فشل اتفاق أوسلو الذي سمح بعودة ياسر عرفات إلى ارض فلسطين. لكنّ السؤال الذي لا مفرّ منه: من كان يتصوّر أن "أبو عمّار" سيعود يوما إلى فلسطين وسيدفن على مرمى حجر من القدس... لولا اوسلو؟

من أهمّ الأخطاء التي ارتكبت الإستخفاف بالقدرة على التخريب التي يمتلكها تحالف غير مقدّس بين "جبهة الممانعة" التي تقودها ايران وتضمّ متطرفين من كلّ الأشكال والفئات من جهة واليمين الإسرائيلي من جهة أخرى.

يظلّ الخطأ الأكبر في عدم الذهاب سريعا إلى تطوير الاتفاق وتنفيذ بنوده فيما اسحق رابين حيّ يرزق. يعود ذلك إلى امرين في غاية الأهمّية. أولهما أن ياسر عرفات لم يكن يعرف كثيرا عن اللعبة السياسيّة في مدينة واشنطن وكيف تدار الأمور فيها ولا عن إسرائيل نفسها والتجاذبات في داخل تلك الدولة. لم يدرك باكرا مدى تأثير العمليات الإنتحارية التي نفذتها "حماس" في ما يخصّ تغيير طبيعة المجتمع الإسرائيلي بشكل حاسم.

استطاع الحلف القائم بين "الممانعة" التي تضم "حماس" واليمين الإسرائيلي نسف أوسلو عن طريق احداث تغيير داخل إسرائيل نفسها حيث لم يعد مجال سوى لإنتصار اليمين في أي إنتخابات تجري في المدى المنظور. سمح ذلك بأن يكون بنيامين نتانياهو، الذي لا يحبذ سوى الإبقاء على الجمود السياسي، أكثر من جلس على كرسي رئيس الوزراء في تاريخ دولة إسرائيل.

ليس مطلوبا الدخول في تفاصيل التفاصيل وأسباب فشل اتفاق أوسلو. الشيء الوحيد الأكيد، بعد مرور 30 عاما على توقيع الاتفاق، أنّ اليمين الإسرائيلي نجح في حربه على الإتفاق خصوصا أنّه كان يمكن أن يمهّد لقيام دولة فلسطينية في يوم من الأيام.

بعد ثلاثين عاما على أوسلو، يتبيّن أنّ "أبو مازن" لم يكن يوما في مستوى قيادة مرحلة ما بعد ياسر عرفات الذي كان على خلاف عميق معه. في أساس هذا الخلاف طبيعة كلّ من الرجلين. كان "أبو عمّار" يرفض إدارة ظهره لأي فلسطيني، فيما لا همّ لدى "أبو مازن" سوى ابعاد أي فلسطيني يمتلك حيثيّة ومؤهلات معيّنة عن الحلقة الضيّقة المحيطة به. صحيح أنّ "أبو عمّار" لم يكن يعرف ما هي اميركا وما هي إسرائيل تماما، لكنه كان منفتحا على كلّ من يستطيع أن يحسّن اداءه. كان يستمع لمن يريد اسداء نصيحة إليه. في المقابل، ثمة انغلاق كامل لدى "أبو مازن" على كلّ فكرة جديدة. قد يكون هذا الإنغلاق وراء عيشه في شبه عزلة عمّا يدور في داخل فلسطين وفي المنطقة والعالم... ووصوله إلى قول كلام يخدم اليمين الإسرائيلي. كلام يصبّ في طاحونة أولئك الذين قالوا في إسرائيل، منذ البداية، أن لا فائدة من أي اتفاق مع الفلسطينيين ومن الرهان على العيش بسلام معهم.