هل تجني الشعبوية ثمار إفلاس الأحزاب في رئاسيات تونس

الانتخابات الرئاسية ستدور أساسا في ظل ترشحات أكثر جدية لشخصيات ذات مصداقية ومؤهلين لأن يكونوا رجال دولة وفي مقدمتهم عبد الكريم الزبيدي.

تونس ـ تشهد الأوساط السياسية التونسية وأكثرية اتجاهات الرأي العام جدلا حادا وواسعا لا فقط بشأن جدية غالبية الترشحات للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في الشهر القادم والتي بلغت 97 مترشحا وافقت الهيئة العليا للانتخابات على 26 ملف فقط، وإنما أيضا بشأن الترشحات الجدية والتي عكست رهان الطبقة السياسية على الشعبوية.

ويدور الجدل بالخصوص حول إفلاس الطبقة السياسية منذ الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي في يناير 2010 في صناعة رجال دولة أقوياء يحظون بثقة التونسيين مؤهلين لرئاسة الدولة المدنية وكذلك في معالجة الملفات الحارقة وفي مقدمتها الملفين الاقتصادي حيث لا تتجاوز نسبة النمو 1 بالمئة والملف الاجتماعي إذ تتجاوز نسبة البطالة 15 بالمئة وملف الإرهاب الذي مازال يؤرق البلاد.

ولا تخفي أكثرية التونسيين أن الانتخابات ستدور وسط نوع من المزاد الشعبوي لأول مرة في تاريخ البلاد لا يخلو من المفاجآت ما يعد استخفافا برئاسة دولة عريقة وقوية كثيرا ما حافظت على هيبتها سواء خلال فترة الزعيم التاريخي وأب الاستقلال الحبيب بورقيبة أو في عهد الرئيس بن علي وكذلك خلال رئاسة الراحل الباجي قائد السبسي.

ويبدو أن تسلل الشعبوية إلى الرئاسية، كما يذهب إلى ذلك كثير من المحللين السياسيين، من شأنه أن يجرد الانتخابات من جديتها ومصداقيتها وحتى من نزاهتها إضافة إلى أنه من شأنه أن يزيد في تعقيد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في حال فوز مفاجئ في وقت تحتاج فيه تونس إلى رجل دولة قوي.

ويرى متابعون للشأن التونسي أنه باستثناء المترشحين عبد الكريم الزبيدي وزير الدفاع السابق ومهدي جمعة رئيس الحكومة السابق وقيس سعيد أستاذ القانون الدستوري وعبير موسي زعيمة الحزب الدستوري فإن بقية المترشحين يراهنون على خزان شعبوي وفي مقدمتهم عبد الفتاح مورو مرشح حركة النهضة الإخوانية ونبيل القروي وهو رجل أعمال يملك قناة تلفزيونية خاصة ومنصف المرزوقي الرئيس السابق.

الزبيدي تعهد بكشف أهم ملف ينتظره التونسيون
الزبيدي تعهد بكشف أهم ملف ينتظره التونسيون 

وفي ظل تدني ثقة أكثرية التونسيين في مصداقيتها وتركتها السياسية خلال السنوات الماضية يبدو أن حركة النهضة اضطرت إلى ترشيح مورو لا لكونه متنفذ تنظيميا وسياسية وإنما لكونه شخصية مقبولة شعبيا على حد تعبير القيادي في الحركة الإخوانية الحبيب اللوز أحد أبرز الجناح العقائدي في الحركة.

وعلى الرغم من أنه أحد مؤسسي النهضة العام 1981 معية راشد الغنوشي يعد مورو الذي يتولى منصب نائب رئيس النهضة ورئاسة مجلس النواب بالنيابة من أبرز المهمشين من قبل غالبية القيادات والكوادر والقواعد التي تجاهر بمعارضة ترشيحه.

ويعكس ترشيح مورو من قبل مجلس شورى النهضة اقرارا ضمنيا بإفلاس الحركة سياسيا وتدني ثقتها في ثقة التونسيين في قياداتها المتنفذة ومحاولة مخاتلة لتقديم صورة مغايرة قد يبدو مورو الأكثر تعبيرا عليها حيث عرف بانتقاده لأداء الحركة وأداء رئيسها الغنوشي إذ جاهر في أكثر من مناسبة بأن شعار الإسلام هو الحل شعار فضفاض.

ويرى مراقبون أن مورو الذي ستملى عليه سياسات النهضة إملاء من قبل الغنوشي لن يغير صورة الحركة الإخوانية التي ترسخت في أذهان التونسيين كطائفة دينية أكثر منها حزبا سياسيا ولعل ذلك ما يفسر إبقاء النهضة على باب المواربة مفتوحا بشأن الانتخابات حيث رحبت بترشح عبد الكريم الزبيدي لتدعمه في الدور الثاني في حال هزيمة مورو على الرغم من أنه يعد خصمها الأول خاصة بعد تلويحه بكشف جهازها السري.

ومن المتوقع أن عصفور النهضة سيخوض الانتخابات وسط مفارقة سياسية من الصعب تخطيها إذ يبدو من العسير عليه لا كسب تأييد أكثرية الناخبين الذين يحملون النهضة مسؤولية نزعة الهيمنة على المشهد السياسي ومؤسسات الدولة وخطابها السياسي المخاتل ولا جزء هام من قواعد الحركة التي ستمنح أصواتها لمترشحين آخرين.

ويزاحم مورو في شعبويته نبيل القروي الذي يتصدر نوايا التصويت وفق عمليات سبر الآراء والذي يراهن على خزان الناخبين الفقراء بعد أن نجح في نحت صورة الرجل الذي ينتصر إلى همومهم من خلال جمعية "خليل تونس" التي أسسها منذ ثلاث سنوات وتعنى بتقديم المساعدات الإنسانية مسخرا قناته التلفزيونية للترويج له.

وفي ظل اتساع رقعة الفقر التي تصل إلى أكثر من 50 بالمئة في عدد من البلدات والجهات الداخلية المهمشة والمحرومة استفاد القروي كثيرا من نشاطه الاجتماعي ليبدو واحدا من أبرز المترشحين على الرغم من أنه لا يصنف ضمن الشخصيات السياسية العريقة والمعروفة طيلة السنوات الماضية.

ولا يملك القروي برنامجا سياسيا واقتصاديا وهو يكتفي بالتأكيد على معالجة المسائل الاجتماعية غير أن كثير من المراقبين يرون أنه يتوفر على حظوظ لا بأس بها تؤهله لكسب الجولة الأولى من الانتخابات مستفيدا من خزان انتخابي شعبوي.

أما منصف المرزوقي الحليف السابق لحركة النهضة فسيخوض الانتخابات مجردا من أية حظوظ نتيجة تركته السياسية خلال فترة حكم الترويكا وصورته المهزوزة لدى غالبية التونسيين الذين لا يرون فيه سوى رئيس سابق فاشل.

المرزوقي لم يكتفي بالهزيمة الأولى
المرزوقي لم يكتف بالهزيمة الأولى

غير أن قراءات تظهر أن الانتخابات الرئاسية لن تدور فقط في فلك الشعبوية السياسية وإنما ستدور أساسا في ظل ترشحات أكثر جدية لشخصيات ذات مصداقية ومؤهلين لأن يكونوا رجال دولة وفي مقدمتهم عبد الكريم الزبيدي.

وتشير تلك القراءات إلى أن طبيعة الانتخابات الرئاسية ووعي الناخبين التونسيين سينتصران إلى منطق رجل الدولة لا إلى المنطق الشعبوي وهي خاصية تتوفر لدى الزبيدي دون سواه خاصة وأنه تعهد بكشف ملفات النهضة وهو موقف شجاع يرى فيه التونسيون تعهدا بحشر الحركة الإخوانية في الزاوية.

ومما يعزز حظوظ الزبيدي أنه يتمتع بتأييد واسع من عدد من الأحزاب السياسية وفي مقدمتها نداء تونس ومنظمات المجتمع المدني وعدد من الشخصيات السياسية المتنفذة ما دفع بالمراقبين إلى التوقع بأنه الأوفر حظوظ بالفوز بالرئاسية.

ولا يستبعد المراقبون أن تحمل الانتخابات مفاجآت تبدو غريبة عن طبيعة رئاسة الدولة التونسية سواء تعلق الأمر بانتصار الرهان الشعبوي أو بفوز شخصية لا تمتلك رصيدا سياسيا لافتين إلى أن المترشح قيس سعيد قد يستفيد من 1 مليون صوت من الناخبين المسجلين الجدد وأغلبهم من الشباب المتعلم الذي سئم من إفلاس الطبقة السياسية.

ويلقى سعيد، وهو أستاذ قانون دستوري لكنه لا يملك في رصيده خبرة في السياسية أو دواليب الدولة، تأييدا خاصة من السلفيين وعدد كبير من مؤيدي حركة النهضة الإسلامية رغم تأكيده المستمر على أنه شخصية مستقلة.

وساهم ترشح قيس سعيد الذي يعد ظاهرة فيسبوكية بامتياز، في الدفع ببعض المواطنين لتقديم ترشحاتهم للانتخابات الرئاسية بملفات خلت من أبسط الشروط.

وفي ظل هكذا إفلاس وما يرافقه من أزمة سياسية وانكماش واقتصادي واحتقان اجتماعي واستمرار خطر الهجمات الإرهابية يبقى رهان التونسيين الوحيد، كما يهب إلى ذلك متابعين للشأن التونسي، أن تحمل نتائج الانتخابات الانتصار لمنطق الدولة من خلال انتخاب شخصية قادرة تعزيز أداء مؤسسات دولة مدنية وفتح آفاق جديدة أمام التونسيين.