هل سلمنا عقولنا للآلات بلا مقاومة؟
واشنطن - الذكاء الاصطناعي قد يتسلل إلى كل جانب من جوانب حياتنا، لكن هذا لا يعني أنه يجعلنا أذكى، بل العكس تمامًا.
واستعرض تحليل جديد نشرته "الغارديان" مفارقة محتملة: هل نحن نخسر أكثر مما نكسب عندما نُقحم الذكاء الاصطناعي في أعمالنا اليومية، ونُفرغ مهامنا الفكرية لصالحه لدرجة تُضعف قدراتنا الذهنية؟
يشير التحليل إلى عدة دراسات تربط بين تراجع القدرات الإدراكية واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، خاصة في التفكير النقدي. إحدى الدراسات المنشورة في مجلة Frontiers in Psychology، والتي خضعت لتعديلات باستخدام "تشات جي بي تي" نفسه، وفقًا لملاحظة مثيرة للانتباه، تشير إلى أن الاستخدام المنتظم للذكاء الاصطناعي قد يُسبب ضمورًا فعليًا في قدراتنا العقلية وسعة ذاكرتنا.
كما لفتت دراسة أخرى، أعدها مايكل غيرليش من المدرسة السويسرية للأعمال ونُشرت في مجلة Societies، إلى ارتباط بين "الاستخدام المتكرر لأدوات الذكاء الاصطناعي" وانخفاض مهارات التفكير النقدي، محذرًا مما سماه "التكلفة المعرفية للاعتماد على الذكاء الاصطناعي".
وضرب الباحث مثالًا من قطاع الصحة، حيث تجعل الأنظمة الآلية المستشفيات أكثر كفاءة، لكن على حساب تقليص دور المحترفين الذين يُفترض أن يمارسوا التحليل النقدي المستقل، أي اتخاذ القرارات الإنسانية.
وليس هذا الطرح بعيدًا عن الواقع؛ فكم من الأبحاث أظهرت أن قوة الدماغ تخضع لمبدأ "استخدمها أو اخسرها"، لذا من المنطقي أن الاعتماد على "تشات جي بي تي" في مهامنا اليومية ككتابة الإيميلات، والبحث، وحل المشكلات، قد يُفضي إلى نتائج سلبية على قدراتنا الذهنية.
استخدمها أو اخسرها
ومع تفويض البشر المزيد من المشكلات المعقدة إلى نماذج الذكاء الاصطناعي، أصبحنا أيضًا ميّالين للتعامل مع هذه النماذج كـ"صندوق سحري" يحل كل مشكلاتنا. ويعزز هذه النظرة قطاع الذكاء الاصطناعي نفسه، الذي يُسوّق مصطلحات براقة كـ"التعلم العميق" و"الاستدلال" و"الذكاء الاصطناعي العام" لإقناعنا بقدراته الخارقة.
مثال على ذلك: دراسة حديثة وجدت أن ربع أبناء الجيل زد يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي "واعٍ بالفعل". فعندما تُنتج روبوتات الدردشة نصوصًا تبدو عميقة ومدروسة، قد توحي للناس بأنها كائنات ذات وعي، وهذا بالضبط ما يحذر منه الخبراء.
يقول غيرليش: "انتقاد الذكاء الاصطناعي أمر صعب، عليك أن تتحلى بالانضباط. من الصعب جدًا ألا تُسلم تفكيرك النقدي لهذه الآلات."
كما يُنبه تحليل "الغارديان" إلى ضرورة عدم تحميل الذكاء الاصطناعي وحده مسؤولية تراجع معدلات الذكاء؛ فهذه الظاهرة بدأت في الغرب منذ الثمانينات، بالتوازي مع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي قلصت تمويل المدارس العامة، وهمّشت المعلمين، وأوقفت برامج تغذية الأطفال.
ومع ذلك، يصعب تجاهل شكاوى المعلمين من تفشي الغش بالذكاء الاصطناعي لدرجة تهدد بتفجير أزمة تعليمية. ربما لم يبدأ الذكاء الاصطناعي هذه الموجة، لكنه على الأرجح يدفعها إلى مستويات مقلقة لم نعهدها من قبل.