هل كان مؤسسة الدولة الهادوية يحي بن الحسين معتزليا؟

كتاب 'معتزلة اليمن - دولة الهادي وفكره' للباحث د.علي محمد زيد بعد جزءً من جهد ثقافي محلي يبحث عن طريق أصيل لبناء يمن جمهوري قادر على الخروج من دوامة الجهل المتوارث والفقر المستدام ويضع نهاية للظلم والاستبداد.

كان صدور كتاب "معتزلة اليمن - دولة الهادي وفكره" للباحث د.علي محمد زيد جزءً من جهد ثقافي يمني يبحث عن طريق أصيل لبناء يمن جمهوري قادر على الخروج من دوامة الجهل المتوارث، والفقر المستدام، ويضع نهاية للظلم والاستبداد. وكانت الأحلام كبيرة، وثقة الطلائع الجديدة بقدرة اليمن على النهوض لا تحدها حدود. وكان السعي لبناء تجربة جديدة تستجيب لحاجات المواطنين إلى الحياة الحرة الكريمة أمر مفروغ منه. ولذلك لاقى هذا الكتاب قبولا واسعا.

والآن، تصدر طبعة جديدة من الكتاب عن مؤسسة أروقة للنشر والدراسات، وذلك بعد عقود من صدور الطبعة الأولى وبعد الكارثة التي حلت باليمن تستدعي الضرورة إعادة قراءة المنطلقات الثقافية في اليمن والنقاش حول التوصل إلى مشروع نهضوي يضع نهاية للمأساة الحالية ويضع اليمن على طريق الاستقرار وإعادة البناء. ولن يتم هذا دون استعادة النخب الثقافية والسياسية والاجتماعية لزمام المبادرة لوقف الكارثة الحالية، والانطلاق نحو مستقبل خال من القهر والظلم والاستبداد والمعاناة.

يتساءل زيد في مقدمته للطبعة الجديدة من كتابه عن الأفكار التي تثيرها إعادة قراءة الكتاب على ضوء الوقائع التي شهدها المجتمع اليمني بعد انقضاء هذه الفترة الطويلة نسبيا؛ لأن المقارنة بين الروح المتفائلة الوثابة في زمن كتابته وبين ما تشهد اليمن في اللحظة الراهنة من انكسارات تصيب المتأمل بما هو أكثر من الحزن وخيبة الأمل.

ويقول إن أبرز المظاهر الصادمة في الواقع الحالي توقف عملية التنمية، واختفاء حلم النهضة والبناء بعد أن أصبح مجرد ذكرى لآمال كانت تبدو قريبة المنال واندثرت وأصبحت سرابا، وتشريد الحالمين بغد أفضل، داخل اليمن وخارجها، أو دفعهم للانطواء على ذواتهم لمقاومة ما يترك الانهيار والخيبات من آثار نفسية مدمِّرة، وتمزُّق الوحدة التي كانت في يوم من الأيام رافعة البناء الجمهوري الحديث إلى شظايا متنافرة يصعب جمعها من جديد. وعلى هامش الإخفاقات والخيبات الكبيرة تعشعش مظاهر الانحطاط والتقهقر إلى أسوأ ما عَرَف الماضي من عوامل التراجع واستسهال النكوص والتشبث بالأوهام، والقبول بالهامشية والتبعية وكل ما يضعف الوطن ويبقيه فقيرا ينتشر في جنباته الجهل والخرافات وحرمان أبنائه من فرص العيش الكريم والتفتح والإبداع في وطن حر وشعب ناهض كريم.

تناول زايد مرحلة مفصلية من تاريخ اليمن الإسلامي شهد فيها هذا التاريخ بداية قدوم مشاريع سياسية تتخذ الدين الإسلامي أيديولوجيا سياسية للوصول إلى الحكم والسيطرة على البلاد، على أيدي دعاة قادمين من خارج اليمن، قبل أن تصبح هذه المشاريع السياسية جزءً من تاريخ اليمن بعد أن تبناها بعض اليمنيين ودافعوا عنها وقاتلوا تحت راياتها عبر القرون. واصطدمت تلك المشاريع السياسية بطموح الزعامات المحلية، الاقطاعية والقبلية، لبناء مشاريعها السياسية الخاصة ودولها، لتحكم اليمن كلها أو جزءًا منها، وفي بعض فترات التاريخ ساهمت امبراطوريات ودول استعمارية في اشتعال الحرائق على الأرض اليمنية.

يوضح زيد أن كلمة "معتزلة" ظهرت كمصطلح سياسي في الإسلام حين أُطلِقت على نفر من الصحابة اتخذوا موقف الحياد من حرب الجمل بين علي والخارجين عليه سنة 36هـ، أو اتخذوا موقف الحياد من حرب صِفِّين بين علي ومعاوية سنة 38هـ. يستدل على هذا مما جاء في الطبري أن قيس بن سعد، عامل علي على مصر، قال في رسالة له إلى علي: "إن رجالا معتزلين قد سألوني أن أكف عنهم، وأن أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس". وما يؤكد الصلة بين ظهور الكلمة وتكوُّن المذهب الفكري هو أن المسائل التي كان يدور عليها القتال في الجمل وصفين كانت مسائل سياسية تدور كلها حول قتل عثمان، والخلافة بين علي ومعاوية، وما أثارته من جدل فكري حول مرتكب الكبيرة، ومفهوم الإيمان. والدليل الآخر على هذه الصلة بين ظهور المصطلح السياسي وظهور المذهب الفكري أن الشهرستاني يثبت في القواعد التي نشأت عليها المعتزلة قول واصل بن عطاء في "الفريقين من أصحاب الجمل، وأصحاب صِفِّين، أن أحدهما مخطئ لا بعينه. وكذلك قوله في عثمان وقاتليه وخاذليه. قال إن أحد الفريقين فاسق لا محالة، كما أن أحد المتلاعنَين فاسق لا محالة لكن لا بعينه... وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين. وكان الخوارج قد أثاروا الجدل بقولهم إن كل مرتكب للكبيرة مُشرِك، يجب قتاله كقتال المشركين، وما يستتبع ذلك من استحلال للأموال، وسبي للذراري. وتكفير صاحب الكبيرة موقف سياسي من الخلاف بين علي وعثمان ومعاوية.

ويضيف إن معظم المراجع تعيد بداية تكون المعتزلة كحركة فكرية إلى خلاف حدث في مجلس الحسن البصري حول مسألة مرتكب الكبيرة، هل هو مخلد في النار، كمن لم يؤمن بالله أصلا، أم أنه يعذب على قدر ذنوبه، ثم يدخل الجنة. القول إنه مخلد في النار كما قال الخوارج ظلم لأن هذا يساوي بينه وبين الكافرين، والقول إنه مؤمن كما قال المرجئة ظلم وإبطال للوعد والوعيد، لأنه يساوي بينه وبين المؤمنين ممن لم يرتكبوا الكبائر. فقال واصل بن عطاء إن مرتكب الكبيرة ليس كافرا ولا مؤمنا، وإنما في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان، ثم انعزل عن حلقة الحسن البصري، وبدأ تكوين حلقة خاصة به، وتابَعَه عمرو بن عبيد، فسُمُّوا وأنصارهم معتزلة. ويورد نشوان بن سعيد الحميري رواية تجمع بين ظهور المصطلح السياسي وظهور المذهب الفكري فيقول: "ومن الناس من يقول سُمُّوا معتزلة لاعتزالهم علي بن أبي طالب في حروبه". فالخلافات المحتدمة التي شهدها المسلمون، وخاصة منذ أن استولى الأمويون على الخلافة وحولوها إلى ملكية وراثية قد خلقت على المستوى الفكري مواقف فكرية مختلفة تعكس هذه الخلافات، وتنقلها من إطار الصراعات المجسَّدة في الواقع إلى مستوى التجريد الفكري. وتظهر هذه الخلافات في صيغ دينية لأن العصر يتسم بطابع ديني، فجميع "المسائل في ذلك العصر، سواء كانت اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية، أو شخصية، كانت كلها مصبوغة صبغة دينية". وقد ظهرت أفكار المعتزلة كحركة فكرية، بحكم كونها ظاهرة تاريخية، بشكل أولي منذ واصل، ثم تطورت، وتفرعت، وتشعبت إلى فرق وشُعَب عديدة، حتى وصلت حد التناقض وتكفير بعضها بعضا، لكنها رغم اختلافها وتباينها تجتمع على أصول خمسة منذ بلورها أبو الهذيل العلاف، وهي: العدل ـ التوحيد ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرـ الوعد والوعيد ـ المنزلة بين المنزلتين

ويلفت زايد إلى أن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب يعد من أهم الشخصيات الزيدية التي بدأت بإحكام العلايعَدُّ قة بين الزيدية والمعتزلة، كما أنه يُعدُّ الأساس لفرع من الزيدية أسس لنفسه قاعدة في اليمن استمر تأثيرها إلى ما يزيد على ألف سنة. وأول أثر معتزلي نعثر عليه في أعمال وصلتنا لإمام من أئمة الزيدية هو ما نجده في أعماله، مع أننا لا نعثر على اعتراف واضح من هذا الإمام بأنه قد أصبح معتزليا. فهو يتعامل مع الفكر المعتزلي بحذر مستمد من ثقافته المدنية (نسبة إلى المدينة المنورة) ومن تراث الزيدية السابق عليه، ومن البيئة غير المعتزلية التي نشأ فيها في الحجاز. ومع ذلك فهو يأخذ عن المعتزلة الموقف من العقل وتسمية الأصول الخمسة، وإن كان يتبنى بعض أصول المعتزلة ويرفض بعضها واضعا مكانها أصولا يصوغها هو نفسه.ويستند في جميع محاجَّاته إلى الآيات القرآنية، فإذا قابلته آيات "متشابهة" فسَّرها وأوَّلها وفقا للآيات "المحكَمة". ويعتبر القرآن مقياسا لقبول الأحاديث أو رفضها وتفسير السنة وتحديدها.

ويقول أما الهادي فهو يحيى بن الحسين، بن القاسم، بن إسماعيل، بن إبراهيم، بن الحسن، بن الحسن، بن علي بن أبي طالب. ولد بالمدينة المنورة سنة 245هـ/859م، قبل وفاة جده القاسم بن إبراهيم الرسي بسنة واحدة. ولا تلقي سيرته المتوفرة بأيدينا ضوءًا على نشأته وتعليمه وتكوُّنه، والمؤثرات الثقافية التي احتك بها. ولكننا نستطيع أن نستنتج منها أنه نشأ في بيئة شيعية بدأ فيها الفكر الزيدي بالتلاقح مع الفكر المعتزلي، وهي البيئة المحيطة بجده القاسم بن إبراهيم الرسي. ويبدو أنه أبدى تفوقًا مبكرا مما جعل العلويين من الزيدية، وبخاصة في الحجاز، يعقدون له البيعة سنة 280هـ/893م وهو ابن خمس وثلاثين سنة مع وجود أبيه وأعمامه على قيد الحياة، وتلقَّب عندها بالهادي إلى الحق،

ويشير إلى أن أول عمل باشره الهادي منذ اللحظة الأولى لصعدة لوصوله إيقاف القتال الذي كان مستعِراً بين الفطيميين من سعد، والأكيليين من الربيعة لخلق حالة من الاطمئنان تجعل من صعدة مركزا مستقرا يمكن الاستناد إليه، والانطلاق منه لتحقيق المشروع الشيعي الكبير. ولعل الهادي قد ساورته مشاعر "رسولية" فتذكر حينئذ تلك اللحظات الخطيرة في تاريخ الدعوة الإسلامية حين هاجر النبي من مكة إلى المدينة ليصلح بين الأوس والخزرج، ويعتمد عليهم في القتال وإيواء المهاجرين، وجعل المدينة قاعدة للانطلاق لنشرة الدعوة الإسلامية، وبناء دولة عربية إسلامية متسعة. وكثيرا ما أكد الهادي أنه امتداد لتلك الدعوة النبوية. وقد تمكن الهادي بسرعة من تحقيق أول خطوة في مشروعه بسهولة، وهي الإصلاح بين الفطيميين والأكيليين، وحقق التفافهم حوله. وساعده على تحقيق ذلك بتلك السرعة أن صعدة كانت تعيش آنذاك حالة من القحط وانعدام الأمطار.

ويرى زيد أن مؤلفات الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم ومؤلفات جده القاسم بن إبراهيم الرسي تعد من أقدم ما لدينا من مصادر عن علم الكلام المعتزلي. ويقول "إذا كانت مؤلفات القاسم المتوفرة قليلة، وتأخذ من المعتزلة بحذر شديد دون أن تعد نفسها معتزلية، وتمزج فكر المعتزلة العقلاني بثقافة المدينة المنورة المتأثرة بمدرسة الحديث، وتستخدم أسلوبًا وعظيًّا بسيطًا، ويشك في نسبة بعضها إلى القاسم نفسه، فإن الهادي قد خطا خطوة جديدة في الاقتراب من فكر المعتزلة، وتبيين أصول المعتزلة، واستخدام معالجاتهم وأساليبهم في الحجاج. ويبدو أن الهادي لم يفد مباشرة مما ترجم من الفلسفة اليونانية، بل أخذ عن بعض مفكري المعتزلة من المتأثرين بما دخل الثقافة العربية الإسلامية من مؤثرات فلسفية.ولا تتوفر لدينا مصادر تدل على الطريق الذي سلكه في تكوُّنه الفكري، لنستدل منها على طرق اللقاء بينه وبين الفكر المعتزلي. كما أننا لا نعثر على تواريخ كتابة أعماله الفكرية لنرصد المراحل التي مر بها في تطوره فكريا، ولكن نستطيع أن نستنتج أنه قد كتب بعض أعماله، إن لم يكن أغلبها، قبل وصوله إلى اليمن، لأنه قضى معظم وقته في اليمن محاربا، ولم تتوفر له إلا فترات قصيرة من الهدوء، قضى جلها في محاولة نشر دعوته، واكتساب أنصار جدد لها، يتولون مواصلتها من بعده، كما تولى شئون الإدارة والفتوى وقيادة الجيوش، وغيرها من الأعمال.

ويشير إلى أن صعدة لم تكن عند وصول الهادي إلى اليمن تشكِّل مركزًا ثقافيًّا مهما يمكن أن يُساعد على التكوُّن الفكري. فقد كانت المراكز الثقافية العريقة في اليمن، هي صنعاء، والجَنَد، وذمار، وعدن، وبدأت زبيد تجتذب إليها المثقفين والمتعلمين بالتدريج. أما صعدة فقد كانت قرية على طريق التجارة والحج، لا تقاس أهميتها بصنعاء وغيرها من المراكز الثقافية في اليمن. ومع أن صعدة أخذت تتحول في أيام الهادي إلى مركز سياسي وثقافي مهم، فإن من التحقوا بالهادي من خارج اليمن كانوا أقل منه في المستوى الثقافي، واحتاج الأمر إلى فترة أطول حتى ظهر في صعدة مفكر وكاتب مهم مثل الحسن بن أحمد الهمداني. وهكذا نستطيع القول بشيء من الحذر أن الهادي قد تكوَّن فكريا، بل وكتب بعض أعماله، إن لم يكن أغلبها، قبل أن يخرج ليتولى القيادة الحربية.ويبدو أنه قد أقبل على علم الكلام المعتزلي وتزود بأساليبه عندما كان ما يزال ثائرًا متحمسًا يبحث عن طريق تفضي إلى تحقيق عملي لما يؤمن به من آراء نظرية في الحقل السياسي. أما في المرحلة الأخيرة التي بدأ فيها مشروعه السياسي يتهاوى أمام المقاومة اليمنية، وبدأت دولته تنحدر لتصبح دولة غاشمة، فقد أصبح محافظًا. وتعتبر كتابات الهادي من أوفى مصادر الفكر المعتزلي في عصرها، لكن أسلوبه يختلف عن أسلوب متكلِّمي الاعتزال الذين وصلتنا كتاباتهم، فأسلوبه وثيق الصلة بالقرآن الكريم وبأسلوب العرب الأولين في الاستدلال والجدل، وهو أسلوب بسيط وواضح.