"هوس الذاكرة" شحنُ الجمل بغير المألوف من الصور

نصوص علي السيد لا تدعي إلا ما هي عليه تصنع صداها في ذاته وذوات قارئيه مع التأكيد على اختلاف الرؤية وشدة ذلك الصدى.
في داخل كل إنسانٍ شاعر يكمن في أعماق نفسه حتى إذا  تهيأت له ظروفٌ خاصة يخرج من الأعماق إلى الناس على لسان فردٍ منهم
نصوص علي السيد تعمد إلى مشاركة القارئ لهواجسها وكأنها هواجسُه وإحساساتُه

قبلَ أن يكونَ الشعرُ أوزانا تعتمد قوانينَ معينة، وقبل الفراهيدي، كان الشعرُ سليقةً ينبغُ فيه من ينبغ، ويقوله البعض الآخر على عدة مستويات. 
يدفعني هذا إلى القول إن في داخل كل إنسانٍ شاعراً يكمن في أعماق نفسه حتى إذا  تهيأت له ظروفٌ خاصة يخرج من الأعماق إلى الناس على لسان فردٍ منهم. 
وتعريفات الشعر عديدة، تناولها الباحثون كلّ حسب اجتهاده فمنهم من صنفه على أنه الكلام الموزون المقفى، ومنهم من قال بالقدرة على إنتاج كلامٍ ذي معنى يؤثر بالمتلقي عبر طريقة إنتاج المعنى والتخييل. ولم يشترط لأجل ذلك لا وزنا ولا قافية. 
لكننا حين نطرق هذا الباب لا بد لنا من التفريقِ بين مصطلحين شائعين وهما الشعرُ والقصيدة، فليس بالضرورة أن تكون كل قصيدةٍ شعرا، فإذا فرغ النص من الخيال والعبارة الكثيفة والوزن واكتفى بالمعنى فقط، عند ذاك يصح أن نطلق عليه قصيدا بناءً على ما يحويه النص من قصد وإشارة ومعنى. 

التباس الزمن بالعبارة الشعرية يأتي دائما على حساب التكثيف الشعري  

لكننا نجانب الصواب إذا أطلقنا على مثل هذا الصنف من الكتابة النثرية شعرا لانتفاء أركان الشعر فيه. غير أننا يمكننا أن نقول إنه نوعٌ من القصيد أو التعبير المُكثف الذي يعتمد في صياغة تكوينه على العبارة البليغة التي تصنع اهتزازاً في نفس المتلقي ويحلو للبعض أن يسمي الكتابات النثرية المكثفة بالشعر الحر اعتمادا على تحرره من كل التزام إلا من سلامة اللغة، وحتى هذه أيضا تتردد بعض الدعاوى الكتابية الفوضوية التي تدعو إلى تجاوز اللغةِ ذاتها أحيانا. وعند ذاك يقع كاتب مثل هذا النوع في المحظور ويسبح في الوهم كالسابحِ في قعر نهرٍ غادرهُ الماء. 
وبرأيي أن جنس القصائد والمقصودات النثرية تعتمد فيها الجودةُ على فرادة المعنى ووضع الكلمات في جملة ما في أماكنها وسياقاتها العبارية مشكلةً وحيا لذيذا للقارئ وصانعةً إبهارا جميلا عبر العاطفة: والشّعورُ الذي يضيفهُ الشّاعرُ إلى قصائده، مثل: الفرح، والحُزن، والحُب، والغضب، وغيرها من المشاعر الأُخرى، التي تساهمُ في بث روح الحياة في القصيدة.
في ما يتعلق  بهذه النصوص التي بين يدينا، وهي نصوصٌ في غالبها نثرية حسية تراسلية بمعنى أن كاتبها قد دسّ فيها رسائلَهُ العاطفية والحسية، والرسائلُ هذه موجهةً إلى قارئٍ ما، صانعا صدىً جميلاً في ذائقة المتلقي. 
ولأن مثل هذه النصوص تعمد إلى مشاركة القارئ لهواجسها وكأنها هواجسُه وإحساساتُه أو كأنها تتكلم عما في ضميره وأعماقه، والسبب الثاني الذي يجعلها مقبولةً أن مواضيعها هي مواضعينا التي مرت علينا ومررنا بها خلال حياتنا العاطفية والحسية فهي كمثيرٍ في كثير من الأحيان تعبّرُ عنّا.
ففي قصيدته الموسومة "مرايا الظل" يشحنُ جملته بالتضادات التي تنتج جمالا ملفتا  على حد قول  دوقلةَ المنبجي: والضد يظهرُ حسنَهُ الضدُّ، إذا أن اشتعال الثلج ينتج مثل هذا التضاد الذي يحيل إلى تأويلات عدة حسب المتلقي. كذلك يشحنُ جملته بغير المألوف من الصور المستحدثةِ مثل "أسوار الخجل"، "وشفاه الزمن"، وهي من قبيل تقانة الصورة عبر أنسنة الأشياء وتجسيم الحسّي:
يضحك المساء
باشتعال الثّلج 
تراقب ضوءًا خافتا 
من خلف أسوار الخجل 
 مطبوع، لا يزول 
على شفاهِ الزمن 
وخارطة السّنين 
لذّة حزن 
وعذاب فرحٍ راحل.
وفي نصه "هوَس الذاكرة" نراهُ  يلجأ إلى توسعة دائرة السردية في عباراته وقد تلبست كلماته زمنا محسوسا عبر ترادفات الكلمات وتواليها الزمني، وقد احتشدت في نصه هذا الأفعالُ التي تستغرق زمنا وتعبر عنه مثل (لفّت، واحتضنت، وراحت). وهكذا ونحنُ نعلم جيدا أن التباس الزمن بالعبارة الشعرية يأتي دائما على حساب التكثيف الشعري  لكن مثل هذه النصوص دائما هي معنيةٌ بتفاصيل يراها الشاعر ولا نراها نحنُ أو أننا نراها من زاويةٍ أخرى ليست زاويته، وهو الذي يؤسس مقاصده بمعزلٍ عنا لكنه لا يمنعنا من الإنسرابِ وراء خياله وحسه نلتقط منه ما يصنع صدىً في نفوسنا. 

Prose poem
خيالات مبهمة

بعفويّة مبصرة 
لفّت ذراعيها احتضنت 
صورة معلّقة على جدار منسي 
راحت تعانق عطر
المسافات الموحشة 
أرق اللّيل الطّويل 
يتلوّى ويدور 
ينقش دوائر الدّمع
حول عيونها النّاعسة 
وخيالات مبهمة 
تعاند رموش ترقص على أوتار 
شجن الزّهر...
ثمّة حلم
يتسكّع يعيد
هوس الذّاكرة 
بصمت رهيب
لا يقوى على دفن أسرار الغربة 
لعشق شاخ وتيبّس جسداً
على مقصلة من ورق.
على منوالِ هذين المثالين تتأسس مجموعة الشاعر علي السيد، وهي نصوص لا تدعي إلا ما هي عليه تصنع صداها في ذاته وذوات قارئيه مع التأكيد على اختلاف الرؤية وشدة ذلك الصدى، وإذا علمنا أن هذه هي تجربته الأولى في كتابة القصائد النثرية والشعرية لا يسعُنا إلا أن نشد على يديه ونتمنى له توسعة تجربته هذه وصقلها بما يبدعه مستقبلا ومن الله التوفيق.