هيمنة التكنولوجيا على المعنى تصبح أمرا واقعا

إبراهيم غرايبة: الحديث عن هيمنة التكنولوجيا على المعنى ليس توقعاً مستقبلياً ولا فكرة نظرية، لكنه أمر واقع يتشكل أسرع مما يتوقع معظم الناس.
الشركات والأعمال والمؤسسات التجارية بمختلف حجمها ومواردها تلجأ على حماية مصالحها باستخدام التكنولوجيا الجديدة
المعرفة العملية للإنسان بالمستقبل ضئيلة وملتبسة وغامضة

الحديث عن المستقبل أو الحاضر المتشكل أخيرا أو الغائب عن الإدراك مغامرة في ظل تسارع وتيرة التطورات التكنولوجية والتقنية، وما تشكله من تحديات للإنسان سواء فيما يتعلق بالصناعات الإلكترونية أو نظم الذكاء الاصطناعي أو إنترنت الأشياء أو الروبوتات الإدراكية. وهذا الكتاب "من الهرميّة إلى الشبكيّة وجهة الدول والمجتمعات في عصر اقتصاد المعرفة" للباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية د.إبراهيم غرايبة يذهب إلى استقراء المستقبل قارئا للشبكية والمعنى الجديد للوجود الإنساني وعلاقة الشبكية بالاقتصاد والسياسة والتحولات المجتمعية. مؤكدا أن متواليات "الثورة الصناعية الرابعة" وتفاعلاتها الاجتماعية والسياسية تحلّ بسرعة أكبر مما تبديه الأمم من اهتمام واستعداد كافيين للاستجابة والاستيعاب. 
وقال في الكتاب الصادر عن الآن ناشرون وموزعون "إذا كانت التقنية تهبط وتعمل بلا استئذان، فإن الاستجابات ليست تلقائية ولا هي متشابهة؛ هكذا تتحول الأسواق والأعمال تبعاً للتقنيات والموارد الجديدة".
وأوضح أن الشبكية ليست مجرد تقنية تُطبَّق في الإصلاح أو التأثير أو التسويق، أو في أي اتجاه، بل هي منظومة جديدة تغيّر الاتجاهات العامة والاجتماعية للناس، وتكرّس فلسفة ومفاهيمَ وقيماً جديدة، أو تعزّز قيماً ومُثلاً جميلة معروفة من قبل. رغم أن الحياة تجري حقيقة في المستقبل، فالماضي انقضى، والحاضر يتسرب على نحو متواصل ليتحول إلى ماضٍ، فإن المعرفة العملية للإنسان بالمستقبل ضئيلة وملتبسة وغامضة، هكذا فإن التحديات والفرص والوعود التي تشكّل حياتنا الواقعية وما يكتنفها من توقعات ومخاطر يحيط بها عدم اليقين والخوف، والأخطر من ذلك أن التجارب الإنسانية وبخاصة في عالم العرب المعاصر يغلب عليها الانشغال بالماضي والغفلة عن المستقبل، ثم تزايدت المخاطر والصعوبات التي تحيط بحياتنا وتوقعاتنا بسبب التغيرات والتحولات الكبرى التي تجري في العالم في التكنولوجيا والموارد والأعمال، وتغيّر كل شيء تقريبا.

الإبداع صار القوة الرئيسية المحركة لاقتصاد المعرفة وأسواقها، وهذا يجعله هدفاً أساسياً للتعليم والتدريب ومقياساً للتقدم المهني والاجتماعي

ورأى غرايبة أن المعارف والمهارات والقيم المستقبلية تطورت في العالم المتقدم حتى صارت السمة الغالبة لعمل الحكومات والمؤسسات والشركات والأسواق بل الأفراد أيضا، وصار ممكنا إلى حدّ كبير أو معقول الإحاطة بالمستقبل وإدارته، حتى في ظل عدم اليقين الذي يحيط به، والحال أن القيمة العظمى للعمل والتفكير المستقبلي ليست في صحة التوقعات، لكن في العمل والاستعدادات والقدرات والقيم التي تتشكل بفعل التفكير والتخطيط المستقبلي.
ولفت إلى أن مصطلح تكنولوجيا المعنى أفضل ما يصف التكنولوجيا الجديدة، إذ إنه ببساطة يختزل الاتجاه الأساسي للتكنولوجيا الجديدة ثم التحديات الحقيقية الناشئة، فالتكنولوجيا الحاسوبية والشبكية وما بعدها تحاكي الإنسان، وتؤدي معظم - إنْ لم يكن جميع - ما كان يعمله بنفسه، إنها لا تحلّ فقط مكان الإنسان في الأعمال والمؤسسات، لكنها أيضاً تنجز ما كان يتميز به الإنسان عن الآلة، وما كانت لا تستطيع أن تؤديه، فقد كرّس الإنسان لنفسه فكرة مركزية هي المعنى كالتفكير والتحليل والخيال والشعر والذكاء والتعلّم واتخاذ القرارات وتصميم السياسات والتوقعات، وكثير من الأعمال والمهن العادية والمتقدمة أيضا، كالتعليم والطب وقيادة الطائرات والقطارات والاستشارات والتحليل والتصميم والإعلام والمراقبة والأمن والدفاع، وبكفاءة مضاعفة. هكذا يواجه الإنسان تحدياً حقيقياً في أهميته ومعنى وجوده، أو يجب أن يبحث عن معنى جديد يتميز به، ولا تستطيع التكنولوجيا الجديدة أن تفعله. 
وأشار غرايبة إلى أن الحديث عن هيمنة التكنولوجيا على المعنى ليس توقعاً مستقبلياً ولا فكرة نظرية، لكنه أمر واقع يتشكل أسرع مما يتوقع معظم الناس، وربما يكون العالم بحلول منتصف القرن الحالي عالماً آخر مختلفاً في تنظيمه ومؤسساته وأعماله وأفكاره وقيمه، ويمكن في هذه المساحة أن نفكر في مجموعة من القضايا والأفكار العملية والمطروحة في الفضاء العام. ما الذي تؤدي إليه الطائرات المسيّرة من دون طيار؟ ما وجهة الجيوش والصراعات؟ وماذا ستكون وظيفة وأعمال الطيارين؟ وكيف سيكون تنظيم الجيوش، وما دورها؟ بالطبع فإنها مسألة لا تقتصر على الجيوش والحروب، لكنها تمتد إلى النقل والشحن والبريد وخدمات التوصيل، كيف ستكون بعد ذلك وجهة الأعمال في النقل؟ وكيف تعمل إدارات الحدود والجمارك؟ 
وأضاف "في تشغيل منصات التعليم والتطبيقات التعليمية والتدريبية، التي صارت متاحة وممكنة بتكاليف أقل بكثير من تكاليف المدارس والجامعات والمراكز التعليمية والتدريبية، وبإمكانيات في المحتوى والمهارات تستوعب معظم العلوم والمعارف والتخصصات، إلى أين تمضي المؤسسات والمهن التعليمية؟ وكيف يجري تنظيم التعليم والمهن والإجازة بممارستها؟ هل ستظل العلاقة بين السلطات السياسية والتعليم والمؤسسات التعليمية كما هي الحال في الدولة المركزية؟ لقد بدأنا نشهد بالفعل هذه التحديات التي تواجه المؤسسات الإعلامية والإرشادية، إذ تحوّل الإعلام إلى فضاء مفتوح للتلقي والمشاركة بلا حدود ولا تنظيم، وتتشارك اليوم المؤسسات الإعلامية والإرشادية التقليدية مع عدد هائل لا يحصى من المنصات التي تُقدّم بسهولة ومن غير تكاليف ومن غير تنظيم قانوني أو سياسي ما تشاء من محتوى بالصوت والكلمة والصورة وبجميع اللغات، ومن وإلى جميع أنحاء العالم. ماذا تفعل الأمم في إدارة وتنظيم هذا الفضاء؟ وكيف تحمي نفسها من الإشاعات والأخبار المزيفة، وكيف توفّر لمواطنيها وللعالم المعلومات والمعارف الضرورية واللازمة للإحاطة والعمل والتعليم والتدريب؟.. والمعنى أيضا!

العصر الرقمي
إبراهيم غرايبة

ورأى غرايبة أن الشركات والأعمال والمؤسسات التجارية بمختلف حجمها ومواردها تلجأ على حماية مصالحها باستخدام التكنولوجيا الجديدة مشاركة ومنافسة أحيانا للمؤسسات السيادية للدول، فشركات التأمين والبنوك على سبيل المثال تُنشئ أنظمة للتحري والحماية والاستعلام، ولم يعد سراً ولا مستهجنا أنها تملك معلومات كثيرة وهائلة عن مؤسسات الدولة الأمنية والتنظيمية، وأتاحت البيانات الضخمة والهائلة على الشبكة الفرصة لشركات مثل فيسبوك وغيرها فرصاً وقدرات كبرى للتأثير في الاتجاهات والأفكار أو في توظيف المعرفة والمؤشرات الهائلة والدقيقة في أعمال ومصالح سياسية واقتصادية، ولم تعد المنافسة التجارية والانتخابية والسياسية تعمل بالقواعد التقليدية التي تواضعت عليها الأمم منذ نشوء الرأسمالية والاقتصاد الصناعي.  
وأكد أنه على المستوى التجاري والاقتصادي، فإن تكنولوجيا المعنى تعمل ببداهة وفق قاعدتين، هما الاستغناء عن العمالة البشرية ما دام ممكناً للآلة أن تفعل ذلك، ونشوء أعمال وفرص جديدة أنتجتها التكنولوجيا نفسها، وقد يبدو ذلك يعمل تلقائيا، لكنه مرتبط بالسياسات والمؤسسات القائمة مستقلةً عن هذه المتوالية، ذلك أن التكنولوجيا ومنذ الثورة الصناعية تنمو وتعمل بشكل رئيسي في الأسواق والشركات، وبنسبة أقل في مؤسسات الدولة التعليمية والبحثية، أو أن هذه المؤسسات صارت تابعة لاتجاهات السوق ومصالحها.  
يُفترض، بطبيعة الحال، أن تنشأ حول اقتصاد المعرفة أو الشبكية، بما هو التقنيات والموارد الجديدة "الحوسبة والتشبيك والتصغير والأنسنة والجينوم والروبتة والطابعات ثلاثية الأبعاد، والبرمجة الإدراكية والمعلوماتية.."، منظومة اجتماعية وثقافية. وبالطبع، تبدو التقنيات والموارد واضحة ومجمعاً عليها، لكن التشكل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي ليس واضحاً ولا حتمياً ولا تلقائياً، وفي ذلك فإن الخطاب الإصلاحي يجتهد بالاستجابة للمرحلة الشبكية/المعرفية ببناء منظومة فكرية وفلسفية يَستمدّ منها برامج وأفكاراً واتجاهات في التعليم والعمل والعلاقات الاجتماعية والسياسية والقيم والثقافة والمدن. 
وأوضح غرايبة أنها عمليات تكتنفها صعوبة الانقطاع عن الماضي الصناعي وغموض التشكل والاتجاهات، فما زلنا في مرحلة انتقالية من الصناعة إلى الشبكية أو ما بعد الصناعة، وهي مرحلة مليئة بالخوف وعدم اليقين والتغير المستمر، لكن يمكن تقدير اتجاهات ومبادئ للتفكير والاستشراف، منها إنشاء العلاقة الصحيحة والملائمة بين الموارد والتقنيات، والتشكلات والاستجابات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، ومواجهة العلاقات والتشكلات الخاطئة، وإعادة صياغة الأهداف والأغراض العملية للإصلاح، في ظل الفرص والتحديات الجديدة الناشئة عن هذه التقنيات والموارد، وأخيراً إعادة تعريف الإصلاح نفسه، والتمييز بين الإصلاح وضده، وملاحظة ما أنجز بالفعل، أو تلقائياً، من أهداف إصلاحية، بفعل التقنية والتحولات الجديدة، وما يجب إنجازه، وما يجب التمسك به، وما يجب التخلي عنه، وإعادة توزيع الأدوار والأعباء والشراكات والتحالفات بين فئات العمل الإصلاحي ومكوناته، فما كانت تقوم به، مثلا، وسائل الإعلام، صارت تشارك فيه المجتمعات على نحو فاعل ومؤثر. 
ولاحظ أن اتجاهات وقيم اجتماعية وثقافية تتشكل حول الشبكية مثل الفردية والتحولات في أسلوب الحياة ومهاراتها، والنزعة إلى المجتمعات والمدن المستقلة، وصعود الفنون الجميلة والإبداعية؛ مثل العمارة والشعر والموسيقى والتصميم والرواية والرسم، وصعود الفلسفة والتصوف، وظهور الإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه. 
وبالطبع، فإنها مقولات وتقديرات تحتاج إلى توضيح وإثبات. مؤكد أن الإنسان يبحث ويفكر في القيم الجديدة والناشئة، وتلك المتغيرة بفعل التحولات التي تجري في الأسواق والموارد. وبسبب سرعة هذه التحولات وجذريتها، فإن الأفراد والمجتمعات يعطون أولوية وأهمية لأسلوب الحياة، باعتباره التكيف الضروري الذي يجب اتباعه، فمثلا، عندما تصعد وتنتشر تقنيات التصوير والمراقبة وجمع البيانات، يتشكل فكر واتجاه اجتماعي لحماية الخصوصية وإعادة تعريفها. وكانت الفردية ضريبة تؤدي في مجتمعات واقتصاد الصناعة، لكنها تتحول في اقتصاد المعرفة إلى فضيلة وضرورة اجتماعية، يحمي بها الإنسان نفسه من الانتهاك والخواء. 

الإنسان، بفرديته وإمكاناته الجديدة، في المعرفة والعمل، وقدراته على العمل بنفسه، يعيد تعريف المهن والحِرف، وتتغير تبعاً لذلك المدن والمجتمعات

وهكذا؛ تصعد قيم الفردية باعتبارها مبدأ أخلاقياً رفيعاً وحقاً جديداً للإنسان، ليحمي نفسه من هيمنة التقنيات الجديدة، وليرتقي بنفسه، ويحلّ فيها القيم والمعرفة والمهارات الجديدة، والعلاقات الاجتماعية نفسها تتعرض لتحولات وتحديات، ففي فرص العمل، في المنزل أو عن بعد، يقلّ الدور الاجتماعي لمؤسسات العمل، وهي نفسها تواجه الانحسار والتحول. وفي فرص التعلم الذاتي وعن بعد، يتغير وربما ينحسر الدور الاجتماعي للمدارس والجامعات. وهكذا؛ فإن الإنسان في حاجة إلى أوعية جديدة لتنظيم علاقاته وبناء الصداقة. كيف ستتكون قصص الحب والتعارف؟ وما حدودها وآفاقها في ظل فرص وإمكانيات التواصل الجديدة، واختفاء أو انحسار وسائل التعارف والعلاقات التقليدية؟
وشدّد غرايبة على أن الإبداع صار القوة الرئيسية المحركة لاقتصاد المعرفة وأسواقها، وهذا يجعله هدفاً أساسياً للتعليم والتدريب ومقياساً للتقدم المهني والاجتماعي، وجوهر التنافس على فرص العمل والقيادة. هكذا تصبح الفلسفة والثقافة والفنون والموسيقى والكتابة الإبداعية والشعر والرواية والقصة والعمارة والتصميم المحتوى الأساسي للمؤسسات التعليمية والتدريبية؛ لأنها المداخل الأساسية لتشكيل وتنمية الإبداع والخيال، باعتبارهما المهارات والقيم الأكثر أهمية، وما يجب أن تحوزه السوق والعاملون فيها.  
وأضاف أن التقدم العلمي والتقني الجديد يعتمد على معرفة الإنسان وفهمه، ففي محاكاة التقنية للإنسان، تصعد علوم اللغة وعلم النفس والاحتمالات، فجوهر التقدم العلمي والتقني اليوم هو تحويل اللغة والإمكانات والمهارات العقلية والتحليلية والتذكر والتداعيات والترجمة والتفكير والإدراك إلى رموز وبرامج حاسوبية وأجهزة وروبوتات. 
وبطبيعة الحال؛ يصعد الشك ليحلّ بدلا من اليقين، وتصعد العلوم الإنسانية مثل الفلسفة واللغات والاحتمالات والمنطق، وتحتل موقعاً جوهرياً ومؤثراً في العلم والتقنية والحياة، وفي إعادة النظر في المعنى والجدوى والوجود والمصير يصعد التصوف، بما هو التأمل الفردي والبحث عن الإجابات والإلهام، أو تخيل الحقيقة ولأنه خيال فلا يحوله إلى معرفة متبعة سوى النزاهة والثقة، هكذا تتحول قيم النزاهة والثقة إلى المورد الأساسي للمعرفة! 
وهذا الإنسان، بفرديته وإمكاناته الجديدة، في المعرفة والعمل، وقدراته على العمل بنفسه، يعيد تعريف المهن والحِرف، وتتغير تبعاً لذلك المدن والمجتمعات، وعلاقتها بالأفراد والدولة والسوق، ففي مدن الأفراد القادرين على العمل، بأنفسهم ولأنفسهم، الذين لم يعودوا في مواردهم يرتبطون بمؤسسات عمل محددة، وأنظمة عمل تقليدية، يتغير تخطيط المدن والطرق والبيوت، وتتغير أيضاً العلاقة مع السلطات والأسواق.