
هيمنة المقربين من حكام سوريا على الاقتصاد تثير حالة من الاستياء
دمشق - تسود حالة من الاستياء أوساط رجال الأعمال السوريين والمواطنين في المناطق التي كانت تخضع لسيطرة نظام الرئيس السابق بشار الأسد، بسبب هيمنة التجار والشركات التي كانت تقيم علاقات وثيقة بهيئة تحرير الشام، التي قادت الهجوم الذي أطاح بالأسد، على المشهد الاقتصادي، وسط مخاوف من عودة المحسوبية في شكل جديد، ما يفاقم التوتر في البلد المنقسم على أساس عرقي وديني.
وكانت الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد أمرا رائعا بالنسبة للمواطن محمد البدوي، إذ تضاعف حجم مبيعاته وأصبح متاحا له الآن بيع المشروبات التي يستوردها بأسعار منخفضة من تركيا في بقية أنحاء سوريا وليس في إدلب فقط معقل المعارضة السابق التي كان يجلب بضاعته إليها.
أما بالنسبة لهيثم جود فالأمر مختلف تماما فلقد انهارت تجارته. وكان قد أسس إمبراطوريته للمواد الغذائية والمشروبات والسلع الاستهلاكية في العاصمة دمشق في ظل الضوابط الصارمة لنظام الأسد الحمائي لكنه بات يشعر بالقلق من تجربة الحكومة الجديدة مع اقتصاد السوق الحرة.
وقال جود في فندق صغير يمتلكه ويقع داخل أسوار مدينة دمشق القديمة "الاقتصاد كان مبني على شوية ضوابط، هلأ الضوابط ما عادت موجودة وبالتالي هيكون فيه انفتاح للاستيراد وبدنا نشوف الصناعة المحلية شو بيصير فيها وهيدا تحد كبير".
ويكشف التباين بين الحالتين عن تحول في سوريا منذ أن سيطرت المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام الإسلامية على السلطة في ديسمبر/كانون الأول، ووعدت الإدارة الجديدة بالقضاء على المحسوبية التي استمرت لعقود في عهد عائلة الأسد عندما كان الاقتصاد تحت سيطرة حفنة من كبار رجال الأعمال.
وساهم سوء إدارة الأسد في الزج بالبلد الذي يبلغ عدد سكانه 24 مليون نسمة في حالة من التدهور الاقتصادي، وسط عقوبات غربية وحرب أهلية شرسة.
وعاش معظم سكان المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد تحت خط الفقر، وفقا للبنك الدولي. وهيمنت المبيعات غير المشروعة للكبتاغون، وهو مخدر شبيه بالأمفيتامين، على الصادرات.
ويشعر الكثير من السوريين بالتفاؤل أكثر من أي وقت مضى في أن تتمكن بلادهم من إعادة البناء بعد صراع استمر لأكثر من 14 عاما.
لكن الانفتاح السريع في سوريا حوّل دفة القوة الاقتصادية لصالح شركات في محافظة إدلب شمال غرب البلاد وكيانات مرتبطة بهيئة تحرير الشام، حسبما قال أكثر من عشرة من كبار رجال الأعمال والمسؤولين والمحللين لرويترز.
ويؤجج ذلك حالة من الاستياء بين بعض أعضاء مجتمع الأعمال والمواطنين العاديين، ومعظمهم في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة النظام سابقا، والذين يخشون أن يكون الأمر مجرد استبدال شكل من أشكال المحسوبية بشكل آخر.
ويقول جهاد يازجي، محرر نشرة "سيريا ريبورت" الإخبارية الرائدة باللغة الإنكليزية "هناك الكثير من الاستياء.. الأمور جيدة بالنسبة للتجار في إدلب وعددهم قليل جدا، في حين أن الأمور سيئة للغاية بالنسبة للسوريين الآخرين، وهم كثيرون".
وقال يازجي إنه على الرغم من رد الفعل العنيف، إلا أن الزخم الذي تتمتع به الإدارة الجديدة يعزز مكانتها في الوقت الحالي، بعد الإطاحة بنظام الأسد السلطوي الذي لم يكن يتمتع بشعبية. وأضاف "من الصعب معارضتها".
ويقول محللون إنه في الوقت الذي يكابد فيه رجال الأعمال في المناطق التي كان يسيطر عليها النظام سابقا للتكيف مع الوضع، فإن تجار إدلب يستفيدون من توسع سوقهم الداخلية.
ويستفيد هؤلاء التجار من العلاقات القوية مع تركيا المجاورة، وهي داعم قديم للمعارضة السورية السابقة التي تستعد للعب دور رئيسي اقتصاديا وسياسيا.
في مستودعاته بمدينة سرمدا المزدهرة، بالقرب من الحدود التركية، يراقب البدوي عامل رافعة شوكية ينقل صناديق المياه الغازية التي وصلت حديثا من الجانب الآخر من الحدود. وقال "إنهم متعطشون لكل شيء داخل سوريا".
ويتماشى التحول في الاقتصاد السوري مع هيكل السلطة المركزية لهيئة تحرير الشام في سوريا المعاد تشكيلها. وعيّنت الهيئة حلفاءها على رأس وزارات رئيسية، ونصبت زعيمها أحمد الشرع رئيسا لفترة انتقالية مدتها خمس سنوات، وجعلت شركات إدلب مقدمي خدمات رئيسية.
وتفحص هيئة تحرير الشام عشرات الشركات الموجودة في مناطق النظام السابق، بحثا عن وجود صلات بينها وبين النظام القديم وسعيا للحصول على تعويضات من خلال المفاوضات مع الشركات التي يُعتقد أنها استفادت من حكم الأسد.
وتُدفع رواتب القطاع العام في أنحاء سوريا عبر تطبيق "شام كاش" المرتبط بهيئة تحرير الشام. ومع ذلك، لا تزال هناك اختلافات كبيرة بين موظفي الحكومة تبعا للمناطق الجغرافية. ففي دمشق، يصطف الناس في طوابير طويلة أمام أجهزة الصراف الآلي كل صباح لسحب الحد الأقصى النقدي المسموح به. ولا تحدث مثل هذه المشاهد في إدلب.
ولا يزال سكان المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة النظام يتقاضون رواتب أقل عدة أمثال من رواتب الموظفين في إدلب، وذلك بعد عدم تحقيق زيادة رواتب القطاع العام بنسبة 400 بالمئة الموعودة.
ولا يستطيع الكثير من الناس شراء قهوة "نسكافيه" سريعة التحضير وألواح حلوى "باونتي" المستوردة التي حلت محل المنتجات المحلية المقلدة التي كانت معروضة في السابق على أرفف المتاجر.
وكان الاقتصاد السوري يتألف تاريخيا من مزيج من الصناعة والزراعة وقطاع تجاري قوي. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الناتج السنوي انخفض بنسبة تصل إلى 90 بالمئة من حوالي 60 مليار دولار عشية احتجاجات عام 2011 المناهضة للأسد والتي أشعلت الحرب الأهلية.

ولا تزال العقوبات الأميركية، التي تكبل النشاط الاقتصادي، سارية على الرغم من تعليقها المحدود، مما يحول دون استئناف التجارة الخارجية على نطاق واسع. وتريد الولايات المتحدة من الحكومة الجديدة إحراز تقدم في ثمانية شروط لتخفيف العقوبات بشكل أكبر. وتقول دمشق إنها أحرزت تقدما في معظمها.
ويفخر حكام سوريا الجدد بإدلب كنموذج للسوق الحرة، أقاموه في ظروف مستحيلة بعد انتزاعها من نظام الأسد قبل أكثر من عقد.
وفي دمشق، تجوب سيارات قديمة شوارع المدينة المظلمة بسبب انقطاع التيار الكهربائي. ويُقلل الإنترنت البطيء للغاية من العمل عن بعد إلى أدنى حد، وتعاني مؤسسات الدولة من كثرة الموظفين، لكن إنتاجيتها ضعيفة.
لكن في إدلب، تصطف أساطيل من السيارات المستوردة حديثا عبر تركيا من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك سيارات رينج روفر وميني كوبر. ووفقا لأسعار ثلاثة تجار سيارات، تُباع هذه السيارات بثلث ما كانت عليه في عهد الأسد.
وعلى الرغم من وصول السيارات أيضا عبر موانئ سوريا على البحر المتوسط ومعبر جنوبي مع الأردن، يقول تجار السيارات إن المشترين يتدفقون إلى إدلب نظرا لانخفاض أسعارها.
ووفقا لمتحدث باسم الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية، ارتفع حجم التجارة في معبر باب الهوى الحدودي بإدلب مع تركيا 42 بالمئة في الربع الأول من عام 2025 مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وقال البدوي "هيكون في بصمة لتجار منطقة إدلب قولا واحدا بسوريا لأن البيئة خصبة، العلاقات موجودة، الوصول لأي بلد في العالم قائم ويتطور يوميا، هن في مناطق الداخل في عندهم تواصل ولكن فيه ضعف"، مضيفا "أنا متفائل جدا".
لكن هيثم جود لا يشاركه هذا الرأي المتفائل. ومن بين أهم مشاريعه: امتياز حصري لتصنيع وتوزيع منتجات شركة بيبسيكو في سوريا.
وأشار جود إلى أن المبيعات انخفضت بنحو 70 بالمئة منذ سقوط الأسد، بسبب منافسة مستوردين مثل البدوي وانهيار القوة الشرائية المرتبط بنقص العملة، قائلا "كلمة اقتصاد حر كتير منيحة لكن بدنا نشوف التفاصيل".
وقال عبدالله الدردري مساعد الأمين العام للأمم المتحدة والمدير المساعد لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومدير المكتب الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي للدول العربية، وهو سوري المولد، إنه يتعين على الدولة رسم سياسات تجارية، بما في ذلك الرسوم الجمركية، إذا أرادت حماية الصناعات السورية.
وتساءل "هل نعتمد على قوى السوق لتحديد ذلك، دون تدخلات في التخصيص؟ في الوقت الحالي، لن يكون ذلك ناجحا".
وكان استيراد حتى السلع الأساسية، مثل الأدوية أو القمح، صعبا في عهد الأسد حين كان المتعاملون ينتظرون شهورا للحصول على العملة الصعبة عبر منصة حكومية لأن التعاملات المباشرة بالدولار كانت غير قانونية.
وقال مسؤولون سوريون لرويترز إن نحو 600 مليون دولار كانت قد أُودعت في المنصة قبل سقوط الأسد فقدت، مما عرض الشركات في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة النظام السابق لنقص في السيولة النقدية. ولم يُبلغ من قبل عن الأموال المفقودة من المنصة.
وفي إدلب، التعامل مقبول بالليرة التركية أو الدولار وليس الليرة السورية. والكهرباء التي توفرها تركيا متاحة طوال اليوم تقريبا، كما توفر شبكة اتصالات في المدينة إنترنت سريعا.
وقال رجال أعمال في المحافظة إنهم يعتبرون القدرة على بناء الاقتصاد شكل من أشكال مقاومة الأسد. فيما قال أولئك الموجودون في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة النظام إنهم عانوا من الابتزاز والمحسوبية.
وقال مصطفى الطاعة رئيس نسخة المعارضة من غرف التجارة السورية، التي تأسست في إدلب عام 2014 "عندما تحررت البلاد، أدركنا أنه رغم وجودنا تحت القصف هم الذين تعرضوا للتدمير".
ويستخدم الطاعة، في مكتبه الأنيق في سرمدا والمجهز بشبكة واي فاي، الرموز القابلة للمسح الضوئي لتسجيل الشركات بسرعة.
وعين حكام سوريا الجدد في فبراير/شباط زميله علاء العلي رئيسا لاتحاد غرف التجارة السورية، في خطوة اعتُبرت علامة على الدور المتنامي لإدلب.
وهذه الغرف غير حكومية لكنها تتمتع بصلاحيات واسعة في تشكيل العلاقات التجارية داخل سوريا.
وقال العلي في مقابلة أجرتها معه رويترز من مكتبه المزخرف في دمشق "إدلب هي النواة"، لكنه ذكر أن لا أحد سيحصل على معاملة تفضيلية بناء على صلاته بالسلطات الجديدة، وقال إن مهمته هي القضاء على الممارسات الفاسدة وإشراك كل رواد الأعمال في الاقتصاد.
وأضاف "لم يتوقع الناس هنا أن يكون الأمر هكذا، كانت لديهم صورة سيئة عن أننا جئنا لقتلهم ونهبهم وسلب أموالهم، لكنهم رأوا منا الاحترام".
وذكر ثمانية تجار من دمشق أنهم لاحظوا تحولا إيجابيا في اللهجة والنهج وأن الحكومة أصبحت تستمع إليهم الآن وباتوا يشعرون بحرية أكبر في الحديث.
وقالت نادين شاوي، وهي سيدة أعمال من عائلة مسيحية عُينت مؤخرا في غرفة تجارة دمشق "إنهم يتحملون المسؤولية، وهم صناع قرار".
وأضافت "الفرق الرئيسي هو الفساد، كنت تشعر من قبل أنه لا يمكن إنجاز أي شيء دون دفع أموال لشخص ما، لكن هذا الشعور انتهى"، لكنها ذكرت أن أعمالها في استيراد الأدوية تضررت بسبب تغير اللوائح والتهريب والمنافسة الجديدة وانخفاض القدرة الشرائية، قائلة "نحن لا نبيع حقا".
ويعمل الموظفون في ريفا فارما، وهي شركة لإنتاج الأدوية أسسها في إدلب عام 2014 سوريون فروا من حكومة الأسد، نوبات إضافية حاليا لتلبية الطلب على الأدوية الجنيسة التي لا تحمل اسما تجاريا.
وعينت الشركة أكثر من ألف وكيل لتسويق منتجاتها في مناطق أخرى من سوريا، مثل حلب وحماة ودمشق.
وقال مدير المبيعات مصطفى الدغيم عن تغيير النظام في سوريا "كانت نقلة نوعية بالانتقال لموضوع الصناعة الدوائية بالنسبة لنا وبالموضوع تطورنا"، مضيفا أن "السوق المحلية أصبحت كبيرة، وصار عندنا مجال إنه ننطلق لباقي المحافظات".