هَوَامِشٌ عَلَى تَجْدِيْدِ الخِطَابِ الدِّيْنِيِّ فِي مِصْرَ

من التحديات التي تواجه تجديد الخطاب الديني الغلو في التكفير الذي نال واصطاد الكثيرين ولعل أبلغ تشبيه للغلو في التكفير.

بقلم: بَليغ حَمْدِي إسْمَاعِيل

 إن الخطاب الديني بحاجة إلى عملية تثوير جذرية، وكلما قرأت الآية القرآنية ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) أدركت على الفور أننا أمامنا طريق طويل جداً لتغيير النبرة الاستعلائية للخطاب الديني، وأن قبول المناقشة وتقدير التنوع الثقافي دون استعلاء أو استكبار لهو أمر جلل بلا ريب.

إن من التحديات التي تواجه تجديد الخطاب الديني الغلو في التكفير الذي نال واصطاد الكثيرين، ولعل أبلغ تشبيه للغلو في التكفير والتفسيق هو " الورطة"، ولقد توعد رسول الله هؤلاء الذين يكفرون إخوانهم بقوله: (لا يرمي رجل رجلاً بالفسق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك). أما الآن فأصبح التكفير وشبهات التفسيق أسرع حكم يمكن أن يصدره إنسان على أخيه، وإذا كان التكفير قديماً سلاحاً خفياً يستخدمه بعض المتطرفين في مواجهة خصومهم، فاليوم أصبح أداةً هجومية تستخدم بصورة محمومة ومهووسة؛ واستسهال رمي البعض بالفسق والخروج عن مقاصد الشريعة الإسلامية يذكرني بقصة طريفة.

إن أخطر ما نواجهه حالياً من ينصب نفسه باعتباره صاحب ولاية حاكمية، أوتي العلم وفصل الخطاب، وقد عاب القرآن الكريم هؤلاء، مثل قوله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون).

 ولا شك أننا  مغرورقون في فتنة الحكي وشهوة السرد السلبي، وحالنا أشبه ببطل مسرحية صمويل بيكيت المعنونة "في انتظار جودو"، الذي لم يجئ بالفعل لأن المؤلف توفاه الحي الذي لا يموت والأبطال غابوا وسط صفحات المسرحية، إنها فتنة الحداثة التي تسللت خفية في طروحاتنا الفكرية والتي استدعت بالضرورة المطالبة بتجديد الخطاب الديني ومن قبله وبعده تطوير وتحديث خطابنا الثقافي النهضوي الذي لم يطرأ على إحداثياته أية تحديثات أو تجديدات منذ وفاة النهضوي الأكبر الإمام محمد عبده رائد التنوير في العصر الحديث وأن من جاء من بعده اجتر أفكاره وأعاد الصياغة بمصطلحات معاصرة لكن الحقيقة أن الواقع الثقافي المشهود لا يفي بمعطيات عصر يتسارع ومن ثم يتصارع.

وأوضحت التجربة الثقافية شديدة التمصير والتعريب أن الحداثة وقفت طوعا عند حدود المصطلح دون أن تتعدى المد الزمني والمكاني لها وبالتالي دخلت المجتمعات المصرية المتعاقبة لاسيما النخبة في مساجلات تنظيرية حول المصطلح كالدولة المدنية والعلمانية والنهضة وشروط التقدم وإعمال العقل والتكفير وغير ذلك من الطروحات الفلسفية التي طغت على أرفف المكتبات الثقافية والجامعية دون أي تجديد مرتقب حتى وإن افترضنا أن ثمة محاولات فكرية تم رصدها مثل أفكار قاسم أمين وطه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ومراد وهبة وغالي شكري وزكي نجيب محمود وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وعابد الجابري وجابر عصفور انتهاء بسيد القمني وقضاياه الفكرية المثارة حاليا صوب الأزهر الشريف، هي محاولات لتجديد الخطاب العربي بصورة قصدية، فإن جملة المحاولات التجديدية لم تخرج عن حدود بوابة النقد الواقعي لحالات راهنة آنذاك بغير اجتهاد لتقديم رؤية استشرافية، وكانت النتيجة آلاف الأطباء والمهندسين والمدرسين بحجة أن المدافعة الثقافية هي حصول المرء على شهادة جامعية تحميه من ويلات المستقبل الغيبي دون سعي حقيقي للاكتشاف أو التجديد.

ولأن خطابنا العربي والمصري على وجه الخصوص أكثر ميلاً لجلد الذات فإننا رأينا أنفسنا في حالة استغراق كاملة لطروحات النقد أو الجلد الذاتي لفترة ما قبل ثورة يوليو 1952 وتحليل ورصد يبدو مملا بعض الشئ لحكم الملك فاروق ومن قبله فؤاد والحالة الثقافية في هذا الوقت، وبدلا من أن نستفيق على عهد ثقافي يتبعه خطاب فكري يميل إلى التثوير أكثر من استلابه صوب النقد وجدنا خطابا بعد نكسة يونيو 1967 يحلل ما سبق فكانت النتيجة حتى وقتنا الراهن مئات الكتب والرسائل الأكاديمية تحلل الخطاب الثقافي وتنقد وتنقد النقد ذاته في الوقت الذي استيقظت أنا فيه على وصول مركبة فضائية محملة بالعلماء والمستكشفين على سطح الكوكب بلوتو.

هذا الخطاب العربي الراهن الذي لطالما يقع فريسة لفتنة الحداثة ومصطلحاتها غير المحددة لن يفلح بغير اهتمام واضح ومباشر بتنمية الهوية والأصالة الحضارية للشباب الذي بات مهددا بالإفلاس الفكري نتيجة هوسه بالتكنولوجيا كمستهلكين غير منتجين لها، والأشد غرابة في واقعنا الثقافي الداخلي ظهور عشرات الكتب التي تحمل عبارة " من الأدب الساخر " في الوقت الذي نسخر فيه من الكاتب والقارئ والناشر على السواء، حتى تجاربنا الثقافية المتضمنة بهذه الكتب لا تخرج عن عباءة الأحاديث التافهة بين شاب وشابة في كافتيريا أو مقهى راقٍ نسبيا وهنا نفصل بين هؤلاء وسياقهم الحضاري الذي بالفعل يغيب من بين أيديهم بغير رجعة .

لكي لا أقع أنا أيضا في فخ التنظير والمبالغة في السرد فالتوجيه الدقيق لهذه المرحلة هو فتح آفاق المشروعات للشباب الواعي الراغب في الاستنارة بدوافع وطنية، ليس من منظور التنفيذ والبناء المعماري الملموس، بل لنكتفي في هذه المرحلة بإعلان التخطيط لأن التخطيط في حد ذاته هو حجر الأساس والتكوين، من مثل مسابقات لمشروعات ريادة الأعمال بالجامعات، وهذا ليس بمبالغة صحافية، ففي جامعة المنيا على سبيل المثال قام رئيسها الحالي المستنير والمثقف بالفعل الأستاذ الدكتور جمال الدين أبو المجد بتدشين المركز الوطني للإبداع وريادة الأعمال كخطوة استباقية لاستشراف المستقبل الذي يمكن أن نصنعه بأيدينا نحن بغير تبعية لوافد أجنبي أو لفكرة مستوحاة، فقام بإنشاء هذا المركز لاحتضان أصحاب الأفكار الواعدة من الطلاب المتميزين أو الذين يسعون إلى تحقيق التميز واحتضانهم علميا وإبداعيا وتدريبهم على تحقيق وتنفيذ مشروعاتهم وهذه مصر التي نحلم بها .

التوجيه الثاني هو الاكتفاء المرحلي بإعادة قراءة الماضي لاسيما وأن قراءاته النقدية ومناهجه أصبحت متعددة ولا حصر لآليات تناولها، وهذه التعددية للقراءة بالرغم من أهميتها لذوي الألباب المستنيرة إلا أنها ستفتح أبوابا للجدل ومزيدا من التوتر المعرفي، والاهتمام الأولى هو المشاركة في اللحظة الراهنة في نشاطات الوطن القومية بالكتابة أو الإبداع الفني والتشكيلي والموسيقي والإفادة من معطيات مشروعات الدولة في تحقيق مشاركة ناجحة لهؤلاء الشباب.

كاتب وأكاديمي مصري