واشنطن تضغط لحل الخلافات بين بغداد وأربيل في ملف الرواتب

مسؤول في الخارجية الأميركية يؤكد أن التوصل لحل سيؤدي لتهيئة بيئة مواتية للاستثمار وتسهيل إعادة فتح أنبوب جيهان الذي يمثل شريانًا استراتيجيًا لتصدير النفط العراقي.
واشنطن تسعى عبر أدواتها السياسية والدبلوماسية دفع بغداد وأربيل إلى مائدة التفاوض مجددًا
بغداد تتهم حكومة اقليم كردستان بالاصرار على انتهاك الاتفاقيات في ملف الرواتب والنفط
أربيل تتهم بغداد باستخدام ملف الرواتب وسيلة ضغط سياسي

بغداد - تدخلت الولايات المتحدة بثقل دبلوماسي ملحوظ في أزمة الرواتب المستعرة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، في محاولة جديدة لاحتواء التوتر المتزايد بين الطرفين، والذي يتخذ أبعادًا سياسية واقتصادية معقدة، وسط خلافات متراكمة أبرزها ملف النفط والاتفاقيات الثنائية مع شركات أميركية.
وفي تطور لافت، دعت وزارة الخارجية الأميركية، الخميس، الطرفين إلى الالتزام بالمدفوعات المالية المقررة وفق الدستور العراقي، محذّرة من أن استمرار الأزمة يهدد الاستقرار ويعيق الاستثمار الأجنبي، كما يعقّد فرص إعادة تصدير النفط العراقي عبر خط جيهان التركي المغلق منذ أكثر من عام.
وقال مسؤول في الخارجية الأميركية، في تصريح لموقع "شفق نيوز" الكردي العراقي إن "التوصل إلى حل سريع لقضية الرواتب من شأنه أن يبعث برسالة إيجابية مفادها أن العراق يضع مصلحة مواطنيه فوق الخلافات السياسية"، مشيرًا إلى أن ذلك من شأنه "تهيئة بيئة مواتية للاستثمار وتسهيل إعادة فتح أنبوب العراق – تركيا، الذي يمثل شريانًا استراتيجيًا للصادرات العراقية".
والتحرك الأميركي يأتي في لحظة سياسية حساسة تتقاطع فيها الحسابات الداخلية مع المصالح الإقليمية والدولية. وبحسب مصادر دبلوماسية، فإن واشنطن تنظر بعين القلق إلى تداعيات تعطيل رواتب أكثر من 1.2 مليون موظف في إقليم كردستان، خاصة مع اقتراب عيد الأضحى، ووسط تصاعد الغضب الشعبي في الإقليم.
وتحاول الولايات المتحدة، عبر أدواتها السياسية والدبلوماسية، دفع بغداد وأربيل إلى مائدة التفاوض مجددًا. وتستند واشنطن في تحركها إلى علاقات استراتيجية مع الطرفين، لكنها تدرك أن لها تأثيرًا أوسع على الحكومة الاتحادية، خاصة في ظل اعتماد بغداد على الدعم الفني والسياسي الأميركي في ملفات مثل مكافحة الإرهاب، وإعادة الإعمار، وتعزيز استقرار المؤسسات.
كما لعبت زيارة رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني لواشنطن ولقاؤه وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو دورًا في إعادة تسليط الضوء على الأزمة، وتأكيد واشنطن على دعمها المستمر للإقليم ضمن إطار "عراق موحد"، بحسب بيان الخارجية الأميركية.
وفي المقابل، برّرت وزارة المالية الاتحادية في بغداد قرارها بوقف تمويل رواتب الإقليم لشهر مايو/أيار، باتهامات صريحة لحكومة الإقليم بعدم الالتزام بتسليم الإيرادات النفطية وغير النفطية المتفق عليها ضمن قانون الموازنة.

وفي بيان مفصّل أرفق بجداول مالية، أوضحت الوزارة أن حكومة الإقليم "تجاوزت الحصة المقررة لها" في قانون الموازنة الثلاثي، مشيرة إلى أن "الإيرادات التي امتنعت عن تسليمها أدت إلى إخلال بتوازن التمويل"، وأن هذا التجاوز يستوجب اتخاذ إجراءات قانونية وفق قرارات المحكمة الاتحادية.
كما أكدت الوزارة أن الإقليم لم يلتزم بتوطين رواتب موظفيه، وهو شرط أساسي في آلية التمويل الجديدة التي تقضي بدفع الرواتب مباشرة من بغداد للموظفين، دون المرور عبر حكومة الإقليم، وهو ما أقرّته المحكمة الاتحادية العليا في شباط/فبراير الماضي.
من جانبها، رفضت حكومة الإقليم الاتهامات، معتبرة أن بغداد تستخدم ملف الرواتب وسيلة ضغط سياسي في توقيت شديد الحساسية. وفي بيان رسمي، قالت حكومة أربيل إن القرار "يستهدف المواطنين الكرد بشكل مباشر"، مؤكدة أن "الموظفين لا يجب أن يكونوا ضحية للخلافات السياسية أو الاجتهادات القانونية".
وأشارت إلى أن بغداد لم تلتزم حتى الآن بتعويض المتضررين من جرائم الأنفال والقصف الكيمياوي، كما أنها "تتجاهل التزاماتها الدستورية تجاه المواطنين في الإقليم"، وفق تعبير البيان.
وفي خضم هذا التوتر، أعلنت أربيل مؤخرًا توقيع اتفاقيتين ضخمتين مع شركتين أميركيتين للاستثمار في قطاع الطاقة، بقيمة إجمالية تتجاوز 110 مليارات دولار، تشمل مشاريع للتكرير والتخزين والبنى التحتية.
ورغم أن الإقليم يرى هذه الاتفاقيات جزءًا من خطته لتنمية موارده الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل، إلا أن بغداد اعتبرت هذه الخطوات تجاوزًا لصلاحياتها السيادية، حيث أن تصدير النفط وإبرام العقود الخارجية من اختصاص الحكومة الاتحادية وفقًا للدستور.
هذا التطور زاد من تعقيد الأزمة، إذ تعتبر الحكومة الاتحادية أن أي اتفاقات في قطاع الطاقة يجب أن تمر عبر وزارة النفط المركزية وشركة "سومو"، بينما يتمسك الإقليم بحقه في إبرام التعاقدات الخاصة ضمن إطار اللامركزية الإدارية والاقتصادية التي يراها مستندة للدستور.
ويمثل ملف الرواتب في كوردستان واحدة من أقدم الأزمات بين الطرفين، والتي تجددت كل عام تقريبًا مع نقاشات الموازنة العامة. ورغم محاولات متكررة للاتفاق، لا يزال الخلاف الجوهري قائمًا حول آليات تسليم النفط، والتحكم بالإيرادات، وتحديد المسؤول عن التمويل المباشر.
ومنذ أن توقف تصدير نفط الإقليم عبر ميناء جيهان التركي في مارس/اذار 2023، اعتمدت بغداد صيغة "السلف الشهرية" بدلاً من التمويل الكامل، في انتظار تسوية قانونية وسياسية شاملة. لكن عدم التوصل إلى اتفاق دائم بشأن الإيرادات والصلاحيات أفسح المجال لتكرار الأزمات، وسط تصاعد الاتهامات المتبادلة.
وبين هذا وذاك، تحاول واشنطن الدفع نحو حل وسط يحمي الاستقرار السياسي ويعيد ضبط العلاقات بين بغداد وأربيل. ويبدو أن الرسالة الأساسية التي تحاول إيصالها هي أن "الاستقرار المالي والسياسي في الإقليم جزء لا يتجزأ من أمن العراق ككل"، وأن تعطيل الرواتب أو توتير العلاقة مع الإقليم قد ينعكس سلبًا على المناخ الاستثماري والإقليمي في وقت حساس.
وبينما تلوّح بعض الأطراف داخل بغداد بإجراءات تصعيدية ضد الإقليم، فإن التدخل الأميركي قد يشكل فرصة لإعادة إحياء الحوار، خاصة وأن واشنطن تحتفظ بأوراق ضغط لا يُستهان بها، ليس فقط على أربيل، بل على الحكومة الاتحادية ذاتها، التي لا تزال تعتمد على الشراكة الأميركية في ملفات سيادية حساسة.
وفي ضوء هذه المعطيات، تبقى أزمة الرواتب في إقليم كوردستان جزءًا من معادلة سياسية أعقد من مجرد تمويل شهري. هي صورة مصغّرة لخلاف طويل الأمد حول الصلاحيات والثروات والهوية الدستورية للدولة العراقية، في وقت يتزايد فيه الضغط الشعبي والدولي لإنهاء هذه الحلقة المفرغة، وبناء علاقة جديدة قائمة على الشفافية والشراكة الحقيقية بين المركز والإقليم.