وحيد الطويلة .. نظرة الرائي العليم

روح ماصّة وقادرة على هضم فلسفاتٍ وتواريخ وقضايا شائكة جنباً إلى جنب مع تحليل دقيق لكل خلجة من خلجات الكائن الإنساني.
كاتب يملك عقلاً مرتباً بشكل لافت، ويمتلك خيالاً يعيد به نحت ما رتبه منذ قليل
عيون سارد تبحث عن التفاصيل طول الوقت

في العام 2000 صدر ديواني "هواء جاف يجرح الملامح" واشتراه ناقدنا الكبير د. صلاح السروي بالصدفة فقرر أن يكون هو مادة حديثه، مع مجموعة وحيد الطويلة "كما يليق برجل قصير" في برنامج "كاميرا وقلم" الذي كان يعده القاص والإعلامي إيهاب دكروري على القناة السابعة المصرية. 
كنتُ متوتراً كعادتي وزادت نظرات وحيد الطويلة النافذة من ارتباكي، النظرات التي كانت تقول بجلاء إنها تكشفني وتقرأ سريرتي، فسألت د. صلاح همساً إن كان ذلك بسبب أنها عيون سارد تبحث عن التفاصيل طول الوقت، فأمَّنَ على كلامي لكن كلما مرّ الزمان كانت علاقتي بهذه النظرات تأخذ أبعاداً أخرى: فمرةً أقارن بينها وبين كتاباته وقدرته اللافتة على النفاذ إلى ما تحت الجلد، ومرةً أتبعها إلى حيث تنطلق فأصعد وراء سحابةٍ كانت تمر بالصدفة أو أسكن فوق شجرةٍ سينام تحتها قاتلٌ عجوزٌ ويحلم، إلى أن استقر الأمر وصرت ألتمس أماني الشخصي في حدائق هذه النظرات، وأحياناً كنت أوزع يقيني بين صفائي جوار الورود وبين خوفي من الأسوار العالية.
وحيد الطويلة من البشر الذين تستطيع أن تكذب أمامهم وتتجمل وتدعي لكي تداري هشاشتك، لكنك تدرك أنك بحضرة قلب رفيق لمبدع جبار سيحول كذباتك لخيال فاتن، ويهيم معك في بلادٍ ومدنٍ سحرية تجد في طرقاتها نفسكَ ومرآتِكْ.
يمتلك هذا المبدع روحاً لا حد لاتساعها، روحاً ماصّة وقادرة على هضم فلسفاتٍ وتواريخ وقضايا شائكة جنباً إلى جنب مع تحليل دقيق لكل خلجة من خلجات الكائن الإنساني الذي يهيم به حقاً. إن الإنسان هو قضيته في كل ما يكتب: لحظات ضعفه التي يداريها بقسوة وعَظَمةٍ وتعالٍ، فينظر المبدع في روحه ليرجع حقيقياً، أنهار البهجة التي يقترحها كل محبٍ للحياة ويصالح بها الموت والقَدَر، المكر المكتنز الذي يكاد أن يسم كل شخصية يسعى الكاتب لاقتناصها، المكر شعور حمَّال للأوجه يصلح أن يسم الحياة بوجهيها.
هذا الكاتب الذي يملك عقلاً مرتباً بشكل لافت، يمتلك كذلك خيالاً يعيد به نحت ما رتبه منذ قليل، فيصنع حياةً كاملة، موازية، وبين الحياتين والكِفَّتين والثَقَليْن، يلعب السارد الجامح الماكر، يعجنُ ويقيم تماثيله في الشمس ثم يضع على فم التماثيل ابتسامات فتعود تسعى. 
هذا الفلاح الرائي ذو العينين اللامعتين بدمعةٍ لا تنزل أبداً وبرحمةٍ ملضومةٍ مع قوةٍ وبأس هو ذاته المديني الأصيل القابض على لحظات المدينة السرية التي لا تبوح بها إلا للمجانين، المتوله عشقاً في هذه الحياة ونبضها الموار والزاهد عن لحظاتها الزائفة، هو المتصوف العارف الذي يرى ما لا يُرى، وهو الذي يصعب جداً أن تتخيل الحياة الثقافية المصرية بدون النغمات المحلّقة التي تَمَسَّكَ بعد قراءته أو تسكنك للأبد إذا اصطفاك.