وهم الوقت

التوازن والتنظيم الداخلي هما السبيل الحقيقي للإنجاز والسكينة، لا الركض خلف الساعات والنجاحات السطحية.
دارين المساعد
الرياض

ما رأيتُ الوقتَ يقطعُ إلّا من يحاول قَطْعَه، ولو قررتَ البحث عن الطريقة المثلى لقطع الوقت فإنك لن تجده بحدّة السيف وصلابته، بل إن الهشاشة صفته الأساسية، حيث يتطاير كلما حاولت الإطباق على بضع ساعات منه.
لن يقطعك الوقتُ عندما تعيش اللحظة الآنية، وهذا الدرس الأول الذي كتبه الله علينا كمسلمين في فرض الصلاة.
الدرس لم يكن بكثرة الركوع والسجود، كان بالطمأنينة والتأني، حتى في السير إلى المسجد، وحتى في الذكر. أما الوصايا النبوية للإمام فكانت تصب في التخفيف على المسلمين دون الخروج عن مبدأ الخشوع. إنه التوازن، عماد كل التجارب الحياتية.
ليس الوقت حاجة ينبغي اللحاق بها، بل وسيلة يمكن استخدامها بأفضل الطرق وأيسر الاحتمالات لتحقيق الإنجاز. فإن كان المرء متعلقًا بالانتظار خاب ظنه، وفُقد صبره، وطغى عليه كره واقعه. أما لو كان مستريحًا مطمئنًا، موقنًا باستحقاقه لمطالبه، فإنه لا شك ظفر بما يريد.
وهذا ما يظهر جليًا الآن على المجتمعات التي تواجه التقنية كبديل للعمل والتفكير والحساب والبحث. ولم أكن يومًا ضد الاختصار وتوفير الوقت، ولكنني كنت أتمنى أن يسير كل شيء بهدوء. وأن ندرك واقعنا بكل تفاصيله، وأن نملك القوة للرضا والتسليم. أتمنى لو لم نهرب من الواقع، ولم نحاول إنكاره. أقول هذا وقد خضت الكثير من التأخير في حياتي. فاتتني الكثير من الفرص التي تهت عنها في مجاهيل الانتظار. لم أعرف أبدًا أن الحياة تُقاس باللحظات الطويلة، لأنها حقيقية، تملؤنا بالشعور، وتغرس نفسها في أرض الذكريات. أما اللحظات العابرة، فتعطينا الدروس، وتصدمنا بالنتائج، وتبقينا في دهشة الفقد أو الهجر، ثم لا نترك ثواني نفكر بها إلّا وقد أحرقناها في التسلية أو النوم أو اللاشَيء.
علمتني الحياة أن المراحل الأخيرة قد تأتي مبكرًا، مثلي عندما واجهتُ الأمومة في سنٍّ مبكر، وصديقاتي من الطالبات يعشن مرحلة التعليم والنجاح. كان استعجالًا، ثم صار تأخيرًا، والحكمة في ذلك عرفتها بعد أن احترفت الحرف، ولونت الكلمة، وأمسكتُ المعنى أسيرًا في سياق أفكاري.
الوقت لا يفوتك ما لم تلحق به، لكنه لن يمرّ من خلالك بدون أن يبنيك أو يهدمك.
إيجاد التوازن هو رحلة الإنسان في كل مرحلة من عمره، حيث تختلف عليه الكفّتان بما زاد عليهما من تجارب ومسؤوليات واهتمامات. وحقيقة الوقت أنه مجرد وهم، لا وجود له إلّا في معتقداتنا وأفكارنا.
الدقائق والثواني ستمر، سواء نظرت إليها أو لم تنظر، لكن الحداثة وضعتها أمام عينيك في كل شيء، حتى تسابق أيام عمرك كأنك تفنيها بسرعة، دون أن ترى أجزاءها الصغيرة، وبدون أن تشبع من نجاحك، أو من عائلتك، وحتى من ممتلكاتك. كل ما حولك يختفي بريقه، لأن مطورًا آخر قادم، ثم تعمل أكثر لتحظى به أو تستطيع شراءه. وينتهي يومك مرهقًا، ويبدأ نهارك مثقلًا.
ثم، في وعيٍ أبعد، وبعد أن تفني عمرك في الملاحقة والإسراع، تفقد الإحساس بالوقت، وتبدو الحياة مثيرة للاهتمام وتستحق التأمل والمشاهدة، لكنك لا تملك الصحة لاستشعارها. وترافقك كلمة "يا ليت"، لكنها لم تُطلق يومًا على الأمنيات، بل كُتبت لوصف العبرات والخيبات.
لا تقطع الوقت! جرّب أن تقطع التشتت، حاول أن تعيش اللحظة دون أن توثقها وتحتفظ بها. كن ثملًا بالهدوء، امتلئ به حتى تتبعك الدقائق وتسير وفقًا لشروطك.
لا تركض خلف الإنجاز كأنه الوجهة الوحيدة في هذه الحياة. لقد خُلقنا لنعبد الله ونتأمل خلقه ونهدأ بذكره. تحقيق ذاتك لا ينحصر بدفع عجلة التنمية. أنت إنسان، في داخلك عالم من الوعي يستحق أن تبحث فيه وتستدل بحدسه.
الوقت هو هذه اللحظة التي تعيشها، لا شيء بعدها ولا قبلها. راقب ماذا تفعل الآن؟ وراقب كل شيء في الحياة واقتدِ به. لأن الزرع له وقت محدد للإنبات، والمطر له وقت حتى يسقط من السحاب الثقال، والنمو له مراحل، وتلك سنة الله في كل شيء. إذن، لماذا تحصر نفسك في الصراع مع الدقائق، وتغرق جسدك بهرمون الكورتيزول، الذي لا بد أن يُشيخ عقلك وبشرتك وكل أعضائك؟
لا شك أن التنظيم هو أساس النجاح، وهذه وصيتي والخلاصة التي أود أن أختم فيها هذا المقال: نظّم يومك بالروتين، دع جسدك يلتزم بساعته البيولوجية التي خُلق فيها وفُطر على الاستماع لها. اترك نفسك مُسيَّرًا نحو الانضباط، مستعينًا بأدواتك الطبيعية.
توقّف، واجلس بهدوء، ثم تأمّل كل شيء كنت تراه من نافذة السرعة، وسترى تفاصيل كنتَ ملهيًا عنها، وأفكارًا مرّت دون أن تطورها، وأشخاصًا عبَروا ولم يأخذوا حقهم من اهتمامك. سترى أن ما كنت تعتقده حياة كان حُلُمًا.