الانتخابات البلدية في تونس: الخاسرون والرابحون

هل تتخلى النخب التونسية الحاكمة عن المكابرة وتعيد قراءة الأرقام؟

مر أسبوع على الانتخابات البلدية وما رافقها ويرافقها من جدل في مختلف الأوساط السياسية والإعلامية. وفي انتظار أن تتضح خلال شهر نتيجة التوافقات بشأن رئاسة البلدية لاسيما بلدية الحاضرة وشيخ المدينة وما اذا سيكون على رأسها امرأة تنتمي للحزي الإسلامي حركة النهضة أو غير ذلك، ستظل الصورة الأكثر تعبيرا عن تونس في هذه المرحلة صورة الشيخ التسعيني وهو يتقدم ببطء باتجاه أحد مراكز الاقتراع لاداء واجبه الانتخابي وقد اعترضه أحد الجنود الشبان ليأخذ بيده. صورة تختزل المشهد السياسي في تونس في موعد انتخابي وصف بالتاريخي بالنظر الى أهمية الرهان الذي يأتي قبل عام ونصف من استحقاقات انتخابية تشريعية ورئاسية، وهو مشهد بين جيل المسنين أو الجيل المؤسس لدولة الاستقلال الذي سجل حضوره في هذه الانتخابات بكثير من الصبر الى درجة المشقة من أجل القيام بالواجب، وبين جيل الشباب الغائب الأبرز عن الانتخابات البلدية الذي اختار معاقبة الطبقة السياسية التي خذلته بالغياب ورفض التصويت بعد أن فشلت أغلب الرسائل السياسية التي ارتبطت بالحملة الانتخابية في إقناعه بأهمية ودور الانتخابات البلدية في تكريس الحكم المحلي ودعم ثقافة الديموقراطية. هي الصورة التي ستعود في كل مرة لتذكر المتنافسين لاسيما الأحزاب الكبرى الحاكمة التي يفترض انها تتمتع بالة دعائية لا يستهان بها وبقدرات تمويلية وخلايا تفكير تستبق الاحداث وتستطلع رياح وتوجهات التغيير، تذكرهم بأنهم لم يكونوا في الموعد في هذه الانتخابات وبانهم عاجزون عن قراءة التحولات وفهم الإشارات والرسائل والإنذارات التي ما انفكت تأتيهم منذ الانتخابات الجزئية في المانيا من الرأي العام والمجتمع المدني بمختلف توجهاته. هذه أول النقاط التي يتعين على زعماء الأحزاب فهم وادراك معانيها في بلد ما انفك فيه الدينار عن التهاوي، فيما تتراجع القدرة الشرائية للمواطن الذي أنهكته الديوم ليبقى الارتفاع الوحيد الحاصل في قائمات العاطلين من الشباب المهمش وانتشار الفقر والفساد وغياب الاستثمار والبدائل التي يمكن أن تخفف درجة الإحباط قبل أيام على شهر رمضان.

أما النقطة التالية وفي قناعتنا وهي الاهم فتتعلق بما تحقق للمستقلين في هذه الانتخابات وهو اختراق ربما فاجأ الأحزاب المعزولة عن الناخبين ولكنه لم يفاجئ الملاحظين الذين توقعوا هذا الاختراق للقائمات المستقلة التي استطاعت أن تنافس الحزبان الأكبر في البلاد والتي وجب الاعتراف بأنها راهنت على التواصل المباشر مع الناخبين برغم محدودية الإمكانيات وراهنت على نزاهة ومصداقية رؤساء القائمات من جامعيين او قضاة من الجنسين استطاعوا كسب احترام ناخبيهم. وهنا مربط الفرس. فالتونسي اليوم وبعد أن خبر النخب السياسية التي تداولت على السلطة لم يعد يقبل بأن يلدغ من الجحر مرتين. ومن هنا أيضا عزوف الناخبين وضعف المشاركة في هذه الانتخابات التي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 35 بالمائة من الناخبين المسجلين وهم 5.7 مليون ناخب من بين 8 مليون ناخب يحق لهم التصويت. وفيما سيسجل لحركة النهضة أنها خسرت نصف ناخبيها بين انتخابات 2011 و2014 و2018 فان نداء تونس سيخسر أكثر من ثلث ناخبيه بين 2014 و2018. ولو أن نداء تونس لم يصبه ما أصابه من انقسامات وانشقاقات حتى انه تحول الى نداءات، لربما كان وضعه أفضل على الساحة وهذه مسألة تستوجب الكثير من الجرأة والشجاعة لتقييم واقع هذا الحزب الذي كان الرئيس الباجي قائد السبسي من وراء تأسيسه في 2012 لوضع النقاط على الحروف وانقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يتهاوى.

بلغة الارقام فان القائمات المستقلة تصدرت الترتيب بحصولها على 32.27 بالمائة من الاصوات وستكون النهضة الأولى بين الاحزاب بحصولها على 28.64 من الأصوات متقدمة بذلك على نداء تونس الذي سيحصل 20.85 من الاصوات فيما سيحتل التيار الديموقراطي 4.19 والجبهة الشعبية على 3.95 من الاصوات. وفي انتظار أن تتضح التوافقات الجديدة وتتضح معها المجالس البلدية للسنوات الخمس القادمة فسيكون من المهم التوقف عند جملة من الحقائق التي لم تعد قابلة للتشكيك بعد نتائج اول انتخابات بلدية ديموقراطية في البلاد والتي أكدت حجم القطيعة وعمق أزمة الثقة بين النخبة السياسية وبين الرأي العام وهو الإنذار الأول والتحذير الذي حملته نتائج الانتخابات. وربما يكون من المهم الإشارة الى أن الانتخابات الجزئية في ألمانيا كشفت بوادرها ولكن يبدو أن الحليفين المنتشيين بسياسة التوافق اختارا تجاهل كل الإنذارات واعتماد سياسة النعامة واخفاء الرأس في الرمل على أمل أن تمر العاصفة بأقل الاضرار. ولكن يبدو أن حسابات النداء والنهضة ستنهار على جدار الاستحقاق الانتخابي وستسقط الكثير من الرهانات التي ستفرض على الحزبين مراجعة خياراتهما بعيدا عن محاولات التجميل المفرطة ولعبة الاستقطاب للمستقلين التي تستمر خلف الكواليس قبل وضع الخارطة النهائية للانتخابات البلدية التي سيتعين التعامل معها ودفع ثمن تداعياتها المستقبلية.

لا تقولوا هذا ما يحدث في الديموقراطيات العريقة

واذا كان نجاح كل انتخابات يقاس عادة بنسبة المشاركة ومدى اقبال الناخبين على صناديق الاقتراع فان ما حدث يوم 6 مايو يشير الى عكس ذلك تماما وقد اتضح أن مواطنا بين كل أربعة مواطنين اختار التصويت وهو ما يمكن اعتباره صفعة حادة لا تخفي دلالاتها على مراقب خاصة وأن عزوف الناخبين ارتبط بأهم الفئات وهي فئة الشباب الذي كان وقود الثورة في 2011 والذي يمثل نحو خمسين بالمائة من الناخبين وكذلك الفئة النساء اللائي كن العنصر الحاسم بالنسبة لنداء تونس في كسب الانتخابات التشريعية والرئاسية في دورتها الثانية في 2014 لصالح الرئيس الباجي قائد السبسي. وبعد ما اصطلح على وصفه بالانتخابات المفيدة أو vote utile جاء دور الانتخابات العقابية vote sanction وهو ما يعني أن الناخب غير راضٍ وأنه سيعتمد سلاح المقاطعة والعزوف عن الانتخابات وهو ما يعني أن المواعيد الانتخابية ستكون منطلقا لخارطة سياسية مختلفة وقد تؤشر لولادة أحزاب سياسية وربما اختفاء أخرى، هي إشارات وتحذيرات ظلت قائمة منذ فترة ولا يمكن الا لمن أصيب بداء عماء الألوان ألا ينتبه لها.

والحقيقة ان إصرار البعض على أن نسبة المشاركة لا تختلف عما سجلته الانتخابات البلدية في فرنسا أو بريطانيا وفي غيرها من الديموقراطيات العريقة ليس سوى مواصلة سياسة الهروب الى الامام لان المقارنة غير جائزة بين الديموقراطيات العريقة التي تستند الى مؤسسات عريقة تستند الى دستور مدني لا تأثير للدين فيه على الدولة وتسيره عقلية ثابتة في اعلاء الديموقراطية ودولة القانون والعدالة وبين ديموقراطية ناشئة لا تزال عرضة للعواصف والتجاذبات والتأثيرات.

صحيح أن تنظيم الانتخابات بعد أكثر من تأجيل يمكن اعتباره مكسب مهم لجزء من اختبار طويل رافقه الكثير من التشكيك خلال الصراع الطويل بشأن انتخاب أعضاء الهيئة والتوافق حول رئيسها الجديد بعد استقالة الرئيس السابق شفيق صرصار كل ذلك فيما كانت البلاد تتحمل تداعيات تراجع وغياب دور البلديات طوال السنوات الماضية في محيط بيئي ما انفك يتراجع ويؤثر على حياة المواطنين. وصحيح أيضا أن ما تحقق خطوة نحو تكريس المسار الديموقراطي الطويل، صحيح أنه تمرين إضافي باتجاه تكريس الدستور ورسالة بان الحكم المحلي عنوان التداول السلمي على السلطة، على أن كل ذلك لا يمكن أن يحجب عن الأنظار ما رافق الحملة الانتخابية من اخلالات بدأت بتفرد الهايكا وهي الهيئة الوطنية المعنية بتنظيم القطاع السمعي البصري وبين الايزي وهي الهيئة الوطنية للانتخابات وقرار قنوات خاصة بمقاطعة تغطية الانتخابات البلدية وهو ما كان له تأثيره على الناخب التونسي أيضا أو كذلك من اخلالات في التنظيم كما حدث في المظيلة التي تأجلت فيها الانتخابات، او من خرق للصمت الانتخابي وهي وان كانت اخلالات لا تغير النتائج ولكنها مهمة بالنسبة للناخب.

في المقابل فان المعركة الراهنة بشأن بلدية الحاضرة وما أدراك ما بلدية الحاضرة محور التنافس بين حركة نداء تونس وبين النهضة بعد فوز مرشحتها سعاد عبدالرحيم النائبة السابقة التي اختفت من المشهد بعد الانتخابات الأخيرة لتعود بقوة خلال الانتخابات البلدية ستكون عنوان الاختبار القادم. فنداء تونس اعلن عدم قبوله التسليم بمنصب شيخ المدينة لامرأة في حين أن النهضة تتمسك بمرشحتها وهي بذلك تجعل منافسها وحليفها في الوقت ذاته في موقف محرج وهو الذي رفع شعار المساواة في مواجهة الحركة الإسلامية وفاز بتأييد نحو ثمانمائة ألف امرأة في الانتخابات الرئاسية. وهي معركة مهمة بالنسبة لحركة النهضة التي استشعرت تراجع موقعها لدى ناخبيها فراهنت على استقطاب المستقلين على رأس الكثير من قائماتها واختارت تونسي من الطائفة اليهودية في مدينة المنستير معقل الزعيم بورقيبة التي لم تنجح النهضة في اختراقها. كما راهنت على استقطاب مرشحات غير محجبات في سيدي بوسعيد الامر الذي سيخلق بعض النفور والاستياء داخل الحركة حسب بعض التسريبات بأن في هذه الخيارات تنصل وتراجع عن ثوابت ومرجعيات واهداف الحركة الإسلامية. وحتى الان يبدو أن رئيس الحركة واثق من عمليات التجميل التي أصبحت تستهويه بعد أن تخلى عن رفضه لربطة العنق وبات أكثر اهتماما باناقته وبالصورة التي يصدرها للخارج قبل الداخل. الواقع أيضا أن مخاوف المعارضين لفوز مرشحة النهضة برئاسة بلدية الحاضرة مرده المخاوف من حسابات ونوايا النهضة من المتاجرة في هذه الصورة وعدم اقتناع الكثيرين بتوجه الحركة للفصل جذريا بين الديني والدعوي خاصة وأن المرشحة كان لها تصريحات اعتبرت مهينة للحريات وللمرأة، وهي مخاوف ستظل عنوان تحركات المتأهبين دوما للدفاع عن مدنية الدستور والدولة العلمانية.

ولعله من المهم التذكير بأن الانتخابات البلدية ستكون الخارطة التي ستعيد رسم المشهد السياسي للبلاد وأنه من المهم بالنسبة للأطراف المعنية بالاستحقاقات القادمة مراجعة حساباتها والتخلي عن خطابها المكابر بما تحقق لها من انتصار بطعم المرارة. وفي انتظار عودة الوعي المفقود فان الحديث عن خاسرين او رابحين مسألة لن تتضح قريبا وربما باتت مسؤولية المستقلين أكثر أهمية من أي وقت مضى في التوجه الى توحيد الأهداف والصفوف ولم لا تشكيل حزب جديد للديموقراطيين يخرج المشهد من دائرة تحالف الاخوة الأعداء نداء نهضة الذي وجب الاعتراف أنه جنب تونس حتى الان ربما الأسوأ. فلا احد بإمكانه أن يعرف ما سيكون عليه المشهد التونسي خارج هذا التحالف الذي فرضه الواقع.

ولا شك أيضا أنه وجب الاعتراف ألآن صناديق الاقتراع تبقى البديل الأول والأخير والرهان المطلوب لكل تغيير تتطلع اليه الشعوب ولا شك أن ما حدث في تونس ولبنان في نفس الأسبوع ما يمكن أن يشكل رسالة لكل الشعوب والدول العربية أن هناك طريق غير الحروب والصراعات والرصاص لتحديد التطلعات ورسم المستقبل.