التعامل مع صفقة القرن على طريقة شارون

واشنطن تعرض طبخة وليس رؤية للتسوية. مشكلتها أنها لا تستطيع فرضها على الآخرين.

الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة حاليا، تقول إنها عازمة على طرح ما يسمى بـ "صفقة القرن" للتوصل إلى تسوية سياسية تضمن الحفاظ على مصالح إسرائيل.

ردود الأفعال العربية تؤكد أن التصورات الأولية عن الصفقة ظالمة، من الضروري ادخال تعديلات عليها تستجيب للحد الأدنى للمطالب الفلسطينية، كي يتسنى إيجاد فرصة لنجاح المبادرة التي ملأت الدنيا ضجيجا، وأفقدتها التسريبات الخاصة بها جانبا من بريقها السياسي.

الجولة التي قام بها جاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي ومستشاره السياسي، وجيبسون غرينبلات مبعوثه للشرق الأوسط، وقادتهما إلى مصر والسعودية والأردن الأسبوع الماضي، كشفت عن تصميم أميركي لعرض الطبخة رسميا، وعكست رغبة في توفير أجواء عربية مناسبة، قد تعوض الرفض الفلسطيني لها.

الرسائل التي تلقاها كوشنر وغرينبلات وغيرهما، كانت واضحة. تتمسك بحل الدولتين وتشدد على عدم التفريط في الثوابت الرئيسية اللازمة، بما فيها القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. وهي ملامح تبغضها إسرائيل، التي ربما تبدي استعدادا للتعامل مع الصفقة كحيلة سياسية جديدة وليست كمدخل للتسوية النهائية.

المشكلة أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية، تتعمد التركيز على أن الطبخة تحظى بتفاهمات عربية كبيرة، للدرجة التي جعلت بعض الدوائر تمعن في تجاهل قيادة السلطة الفلسطينية، وتنذر بطرح الصفقة، بصرف النظر عن موافقة السلطة، لتوحي أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لديه من الثقة ما يمكنه من تنفيذ مبادرته.

الحاصل أن واشنطن تعرض طبخة وليس رؤية للتسوية، في وقت تبدو فيه ضعيفة سياسيا، ولا تستطيع تنفيذ أي مبادرة، مهما بلغت درجة أهميتها، بمفردها وبدون توفير درجة من الموافقة عليها من جانب قوى فاعلة في المنطقة.

الولايات المتحدة الآن تفتقد القدرة على طرح إملاءات على دول كثيرة. ربما كانت تمتلك هذه الموهبة سابقا، بحكم تعدد الإمكانيات المعنوية وتنوع منطلقات القوة السياسية، وامتلاق أوراق كبيرة لممارسة أنواع عديدة من الضغوط. لكن حاليا تعيش في طور الانسحاب المخجل من مناطق النفوذ، ويظهر عليها الارتباك في ادارة كثير من الأزمات والصراعات. ولأنها تفتقر لكثير من مقومات التأثير فلن تتمكن من تمرير الصفقة بالطريقة التي تريدها.

كما أن واشنطن لم تعد المتحكم الوحيد في أوراق اللعب بمنطقة الشرق الأوسط، أو تستحوذ على مفاتيح القضية الفلسطينية، وظهرت قوى موازية لها، يمكنها القيام بأدوار فاعلة تناهز الدور الأميركي وربما تتفوق عليه، حيث تتعامل عمليا مع أزمات المنطقة وتراعي توازنات القوى المختلفة ولديها تقديرات واضحة للتسوية، ولا تتجاهل الوقائع على الأرض والأدوات المطلوبة للحل.

لا أتحدث عن روسيا ومقارباتها الذكية في التعامل مع أزمات المنطقة، وفي مقدمتها سوريا، لكن هناك دولا أوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، تحتفظ بمسافة عن الرؤية الأميركية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ما يمنح العرب هامشا جيدا لعدم الرضوخ لضغوط وابتزازات واشنطن.

لعل المصدات السياسية التي وجدتها واشنطن في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، بعد قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس العام الماضي، تنطوي على دلالات سلبية كاشفة لحجم الدور والتأثير في العالم.

هي إشارة بالغة وربما كافية ليدرك العرب عمق التغير في الوزن الأميركي بالنسبة للقضية الفلسطينية. الأمر الذي جعل ترامب يتريث كثيرا في عرض الطبخة التي أعدها رفاقه. فهو يريد أن يتوافر لها الحد الأدني من القبول والغطاء العربي.

كما أن نبرات التهديد، تلميحا وتصريحا، من حين لآخر في الخطاب الأميركي، لم تحقق أهدافها، وفشلت في تغيير مواقف دول عربية مختلفة. بعضها يجيد التعامل مع فنون المناورات السياسية والألاعيب الأمنية التي درجت على استخدامها واشنطن لثنيها على تبني موقف مناهض لسياستها. وتمكنت هذه الدول من تفشيل بعض المخططات التخريبية التي أردات الولايات المتحدة اشغالها بها لإجبارها على قبول رؤيتها الغامضة.

التطور السريع في التفاعلات الإقليمية، منح فرصة جيدة لدول كثيرة لتنويع العلاقات. كما أن الضعف الظاهر في تبني أميركا سياسات مرتبكة حيال عدد من القضايا، قلل من رهانات بعض الدول عليها، ودفعهم إلى توثيق العلاقات مع قوى أخرى لديها رؤى خلاقة وأكثر جدوى، وتريد أيضا التوصل إلى تسوية سياسية بها قدر من الانصاف للشعب الفلسطيني.

الراحل ارئيل شارون رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، كان رافضا بصرامة لخطة خريطة الطريق عام 2003، وأطلق تصريحات تحمل تهديدات مباشرة بعدم السماح بطرحها أساسا، لكنه اضطر في النهاية للتعامل معها، وتمكن من تخريبها عمليا، حتى جرى دفنها، ولم يعد أحد يتحدث عنها. وأُلقي اللوم وقتها على الجانب الفلسطيني.

من قبله اسحق شامير، لعب الدور ذاته، عقب انطلاق مؤتمر مدريد في أكتوبر عام 1991. يومها قال الرجل إنه لو اضطر للتفاوض مع الفلسطينيين سنوات طويلة لن يتنازل عن شيء. وبالفعل مضى نحو 27 عاما على كلام شامير ولم يحصل الفلسطينيون على دولة مستقلة.

قد تكون السلطة الوطنية، المكسب الرئيسي لمؤتمر مدريد، لكن الخلافات الحركية بين القوى الفلسطينية، شوهت التجربة وجعلتها عبئا بدلا من أن تتحول إلى مكسب سياسي. وهو ما استفادت منه إسرائيل، وعوض قادتها ما تصوروا أنه خسارة ونجحوا في تصويب السهام نحو الانقسامات والحصار ومشاكل غزة وضغوط السلطة الفلسطينية على سكان القطاع.

هكذا تاهت القضية الأم، وأضحت أزمة انسانية تستدر عطف المجتمع الدولي. ودخلت على الخط قوى مختلفة، مثل قطر وتركيا، من باب تصفية الحسابات مع بعض الدول العربية. وجنت إسرائيل ثمار هذه التصرفات الحمقاء.

إذا كان ترامب أخذ كل هذا الوقت في التفكير وتهيئة الظروف ولم يحصل على ما يريده، فمن المرجح أن يطرح مبادرته بطريقة فضفاضة لتكون مجرد عملية سياسية لابراء الذمة. يجد فيها كل طرف ما يريده. لذلك من الضروري عدم رفضها من حيث المبدأ قبل التعرف على تفاصيلها. في هذه الحالة من المهم أن يأتي الرفض من خلال الرد على البنود التي تضر بالمصالح الفلسطينية، على طريقة شارون.