الحقيقة القبيحة تتجسد في رأسمالية المراقبة

يتساءل جون نوتون، داعيا الجميع لوضع إجابات مقترحة لتساؤلاته: كيف أوصلنا فيسبوك إلى هذه الفوضى التي لا يمكن الخروج منها؟ فيسبوك اليوم أكبر شركة في العالم غارقة في الظلام.

ويسرد نوتون مؤلف كتاب “من غوتنبرغ إلى زوكربيرغ: ما تحتاج معرفته حقًا عن الإنترنت” في مقال له بصحيفة الغارديان التداعيات المترتبة على الطبيعة الغريبة للتكنولوجيا الرقمية، وأيديولوجيا وادي السيليكون، والسذاجة السياسية المدهشة لمارك زوكربيرغ، ورؤية النفق الأخلاقي لمهندسي البرمجيات، والأهم من ذلك نموذج الأعمال الذي جاء ليكون معروفا باسم “رأسمالية المراقبة”.

كل هذه لا تمنع مصدر الشكوك لملايين المستخدمين في قدرة فيسبوك لمعرفتنا على حقيقتنا كما تزعم خوارزمية الموقع المتلهفة للمزيد من البيانات الشخصية كي تعرض علينا اختراعات مثيرة من أجل الإغراء، فالنساء المستخدمات عادة ما يقترح عليهن رسمة ممثلة شهيرة في معادلة صورية افتراضية لتكون شبيهة لها! وهو أمر مغرٍ بلا شك بالنسبة للمرأة، أما الأولاد الصغار فعادة ما يتنبأ فيسبوك لهم بالمستقبل، وسيكون أمرا مثيرا لهم لمواصلة لعبة التوقع وضخ المزيد من المعلومات عن أنفسهم من أجل شيء واحد، أن فيسبوك هو من يحدد لنا طريقنا القادم، وليس العمل والدراسة والتفكير والتخطيط.

لقد ساعد ذلك، سخاء المستخدمين بتقديم جميع أنواع المعلومات عن أنفسهم “ما يحبون ويكرهون، وما هي المدارس التي دخلوها، وماذا فعلوا من أجل لقمة العيش، وما إلى ذلك”، وكان من السهل تجميع ملف تفصيلي لكل واحد منهم. ويمكن استخدام هذه المعلومات لتمكين العملاء الذين يدفعون ويطلق عليهم اسم المعلنين، من توجيه الرسائل التجارية إليهم.

دعوني “أزعم” بوصفي مستخدما مراقبا لفيسبوك منذ عشرة أعوام من دون أن أشارك بتقديم رأي أو معلومة على صفحتي الشخصية على عكس ما أقوم به من نشاط فعّال ودائم في حسابي على تويتر، أن الذكاء الرقمي في معرفة أهواء ورغبات المستخدمين ليس أكثر من وهم، وفكرة إعلانية تمنحنا صندوقا ملونا ومعلبا بطريقة تتوق الأيادي والعقول لتلقفه، لكنه سيكون فارغا وهشا من الداخل، سواء عرفنا ذلك آجلا أم عاجلا. الغلاف الملون الجميل لا يمنع هشاشة المحتوى.

تصنيف أهواء المستخدمين باستخدام سمات الانفتاح، الوعي، الانبساط، الاتفاق، العصبية… حلول كما تشير التقارير التي ينشرها المتخصصون إلى أنها مثيرة للإعجاب ودقيقة، لكنها في حقيقة الأمر مثيرة للتهكم أيضا وتجعل من هؤلاء المحللين أضحوكة، لأنها في الواقع تهدف إلى تشتيت الانتباه عن الحقيقة.

لقد عرض فيسبوك على الصحافي روبرت شريمزلي من صحيفة فايننشيال تايمز إعلانا مغريا لشراء نعل بثمن يصل إلى 80 دولارا، مع أنه لم يفكر مطلقا بشراء مثل هذا النعل وبهذا السعر، ولم يسبق له أن اشترى نعلا بأكثر من 15 دولارا! لذلك لا يخفي شكوكه مثل غيره من ملايين المستخدمين، بعدم فعالية بيانات الشركات الكبرى، ويحذر بقوله “مهما كانت تلك الشركات جيدة التنقيب في البيانات، فلا يزال من الواضح أن أمامها طريقا طويلا لكي تتعلم فن الاستهداف في الرسائل”.

ولهذا يصل مؤلف كتاب “من غوتنبرغ إلى زوكربيرغ: ما تحتاج معرفته حقًا عن الإنترنت” إلى نتيجة أن فيسبوك أصبح قوة رأسمالية هائلة للمراقبة يستمد إيراداته من استطلاع مستخدميه. وكلما انخرطوا معه بزيادة الوقت الذي يقضونه في الموقع، زادت البيانات القابلة للاستبدال التي أنشأوها.

وقد اتضح أن هذا الكم الهائل من البيانات جعل فيسبوك الشركة السادسة الأكثر قيمة في العالم، بعد أن بنى المبرمجون نظاما آليا لمساعدة المعلنين في اختيار جماهير معينة وتنقية رسائلهم، وفي غضون ذلك وصلت الإيرادات الإعلانية إلى ما يقارب مئة مليار دولار.

علينا ألا ننسى أن مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ نفسه كان يحتقر الإعلان في بدايته، لكنه في النهاية واجه الواقع وأصبح فيسبوك شركة إعلانات. وبالأمس القريب تعهد في جلسة استجواب أمام مجلس الشيوخ الأميركي بأن تكون هناك دائما نسخة مجانية من فيسبوك، فيما أبقى على احتمال طرح نسخة خالية من الإعلانات بمقابل مادي!

هناك رأي يرى أن القيمة الاقتصادية الحقيقية التي خلقتها شركات التواصل الاجتماعي مبالغ فيها، أو بتعبير الكاتب نوح سميث أنها “الأفيون الجديد” فإذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي بالفعل تؤثر على الكثير من المستخدمين على نحو يشبه تأثير السجائر أو الهيروين، فإن ذلك يعني أن المنافع المترتبة عليها أقل مما يبدي الناس استعدادهم لدفع المال مقابل الحصول عليها.

استعان نوتون بتعريف مرتبط بالأعصاب للمسرحي البريطاني الراحل كينيث تينان، ليصل إلى أن فيسبوك أشبه بسر لا تدري أنك تحتفظ به.

ويمكن تفسير مثل هذا الكلام بالعودة إلى حديث سابق لأندرو بوسورث، أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة فيسبوك الذي اعترف بالحقيقة القبيحة التي تؤمن بها إدارة فيسبوك عبر صلب الناس بشكل عميق كلما تسنى للشركة ربطهم معا، لدرجة أن أي شيء يتيح ربط المزيد من الناس أمر جيد وله ما يبرره بالنسبة لإدارة فيسبوك، بغض النظر عن الحقيقة التي لا تشعرهم بالقلق من النتائج المشكوك فيها.

شكوك المستخدمين المتصاعدة التي أضحت حقيقة مقلقة، لا تبددها المخاوف الشخصية التي أعرب عنها زوكربيرغ أمام مجلس الشيوخ الأميركي هذا الأسبوع من احتمال وجود انحياز سياسي في شركته، لأن الآمر أكبر من الانحياز، إنه يكمن في الحقيقة القبيحة التي جعلت الناس يعرّفون عن أنفسهم بأكثر مما يكرهون، فيما استحوذت “رأسمالية المراقبة” على هذه التعريفات لتتاجر بها!