الذاكرة الشعبية وإغراء السلطة المطلقة

الباحثة بسمة عبدالعزيز ترى أن فصول القمع تتوالى باستمرار قد تتوارى في فترة وتشتد في أخرى، لكنها دائمًا حاضرة طالما حضرت السلطة المطلقة وغاب الناس عن المشاركة.
الذاكرة الشعبية تحتفظ بمفردات القهر والعنف مهما طال الوقت
الحقب التاريخية التي مرت بها مصر خلال آلاف الأعوام شديدة التنوع والثراء، وشديدة الاختلاف

القاهرة: أحمد مروان

إغراء السلطة المطلقة، ومسار العنف في علاقة الشرطة بالمواطن عبر التاريخ، هو محور كتاب الباحثة بسمة عبدالعزيز، وتنطلق من نقطة مبدئية مفادها أن علاقة الشرطة بالمواطن المصري كانت ذات يوم غير بعيد علاقة طبيعية لا يحفها قدر هائل من العنف، ثم ولأسباب كثيرة بعضها اجتماعي وبعضها سياسي واقتصادي؛ فإن هذه العلاقة "الطبيعية" قد تبدلت، وتحوّرت لتصبح مليئة بالتوتر والخوف من ناحية وبالقسوة والانتهاكات من ناحية أخرى.
تقول الباحثة: "خلال البحث لم أستطع أن أحدد نقطة فاصلة في التاريخ حدث بعدها هذا التحول، لكنني وجدت أن الفرضية التي بدأت منها كانت شديدة المثالية، وأن فصول القمع تتوالى باستمرار قد تتوارى في فترة وتشتد في أخرى، لكنها دائمًا حاضرة طالما حضرت السلطة المطلقة وغاب الناس عن المشاركة.
استمرأت أن أعرض لمسار العنف كما لو كان مشهدًا واحدًا متصلاً عبر التاريخ، رغم أن هذا الأمر قد يلاقي اعتراضات كثيرة من جانب أن الحقب التاريخية التي مرت بها مصر خلال آلاف الأعوام شديدة التنوع والثراء، وشديدة الاختلاف؛ إذ لا يمكن اعتبارها أحداثًا تتعاقب في خطٍ واحد متجانس، أو حتى في عدد من الخطوط المتشعبة، لكن ما يربط في رأيي بينها جميعًا هو وجود  البشر في المكان، هم الحلقة الثابتة في سلسلة طويلة من الصراعات والمتغيرات.
وترى الباحثة أن الذاكرة الشعبية تحتفظ بمفردات القهر والعنف مهما طال الوقت، بل وتصنع منها إرثًا تنقله من جيل إلى جيل، مهما اختلفت العصور واختلف الحاكم وتبدلت الأنظمة، حيث العنف يستمر مشفوعًا بمبررات وأسباب لا نهاية لها، في المقابل؛ يظلُّ الخوف من السلطة وأدواتها حاضرًا بقوة في وعي المصريين، قاسمًا مشتركًا أعظم في أغلب المراحل والظروف التاريخية، نراه في كلمات حكماء مصر القديمة، ونراه في الأمثلة الشعبية والنوادر والظُّرَف والمأثورات الحديثة.
ويتكون الكتاب من خمسة فصول هي الفصل الأول: جهاز الشرطة، الفصل الثاني: العنف الأمني وتحولاته، الفصل الثالث: كيف ينظر المواطن إلى الشرطي؟ الفصل الرابع: العنف الأمني في ضوء المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الفصل: الخامس انفراط العقد.

لم أستطع أن أحدد نقطة فاصلة في التاريخ
الفرضية التي بدأت منها كانت شديدة المثالية

تاريخ الأجهزة الأمنية
يبدأ الكتاب بتاريخ تكوين الأجهزة الأمنية، ويتعرض لشكل العنف الذي مارسته في بعض الفترات البارزة، ثم ينتهي الفصل الأول بنهاية حكم الرئيس السادات، ويستعرض الفصل الثاني بدايات العنف المنهجي في الثمانينيات والتسعينيات والتطورات التي لحقت به، واتساع الدائرة التي أخذ يطال أفرادها، ثم يناقش الفصل ظهور نمط جديد من العنف الذي تمارسه الشرطة خارج الإطار المنهجي المعتاد في بداية الألفية الثالثة مع التحليل.
وفي الفصول التالية يلقي الكتاب الضوء على صورة الشرطي التي تكوّنت في وعي المواطن على مدار سنوات من القمع المتواصل، ويتعرض للعوامل والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي يمكن في ظلّها فهم التطور في العلاقة بين الشرطة كونها أداة تنفيذية للدولة والمواطن، وطرفًا أصيلًا في عقد اجتماعي ينبغي أن يضمن له حقوقًا غير خاضعة لأية مساومات، وينتهي الكتاب باستعراض رد فعل المواطن على كمّ العنف الموجه إليه ومآل العقد الاجتماعي الذي أصابته الشروخ في جهات متعددة.
تقول الباحثة: "خلال كل ما تتبعته؛ اخترت أن يكون المواطن الذي لا ينتمي إلى أي حزب أو جماعة أو أي كيانٍ معارض سياسيًا هو بؤرة الاهتمام، فالعلاقة بين النظم الحاكمة ومعارضيها دائمًا ما تتسم بالعنف الذي يمكن فهم أسبابه، أما أن تقوم العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمواطن غير المسيّس – الذي يمكن اعتباره مجازًا "مسالمًا" – على عنفٍ شديدٍ كاسحٍ؛ فهذا مشهد يثير المرء رصده ويغريه بالبحث والدراسة؛ وبخاصة مع التصاعد المستمر.
وهناك مباحث آثرت ألا أتعرّض لها في هذا الكتاب؛ منها علاقة الشرطة بالجماعات الدينية وما قامت به هذه الجماعات من حوادث عنف تجاه الأجهزة الأمنية وأفرادها، والأثر الذي تركته تلك الحوادث على أسلوب تعامل الأجهزة الأمنية مع معارضيها، فقد وجدت أن العلاقات القائمة بين الطرفين هي علاقات متشابكة ومعقدة، تحتاج إلى دراسة مستقلة وقائمة بذاتها".
وترى الكاتبة أنه لا شك ثمة من العاملين في جهاز الشرطة من لا يسره ما آلت إليه الأوضاع، ومن لا يستسيغ الأساليب التي تُلحِق بالمواطنين الإهانة والأذى، وقد التقت الكاتبة مع بعضهم، حيث منهم من يترك العمل ومنهم من يحاول الإصلاح، ومنهم من لا يتمكن من الوقوف في وجه تيارٍ ربما هو أقوى من المواجهات الفردية. فيسير معه مرغمًا، لا شك في أن هناك من الضغوط ما تصعب مقاومته، فمعدلات الفقر تزداد وعدالة توزيع الثروة تغيب، ومع التدهور تزداد حاجة النظام إلى القمع، وأداته في هذا هي الأجهزة والمؤسسات الأمنية التي تدين له بالولاء، هي في النهاية دائرة مغلقة، لا بد أن تنكسر في موضع ما. (خدمة وكالة الصحافة العربية)